loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

وفيّة والشبل

breakLine

 

ياسمين صباح حنّوش || قاصة عراقية




"احترسي!"

"لقد غسلوا أدمغة كافة الأطفال الذين ترينهم هنا."  

هكذا حذرتها موظفة الملجأ وهي ترفق الحاجيات التابعة للصبي البالغ تسع سنوات من العمر، لكن وفية لم تعبأ بالأمر من شدة بهجتها بالحدث الذي انتظرته بفارغ الصبر.  

فرحت فرحاً جماً حين اتصلت بها المصلِحة الاجتماعية من ملجأ الزهور في الأسبوع الماضي لتعلمها بقبول الاستمارة وحصولها أخيراً على حقوق التبني.

كانت وفية، وهي أرملة معلم اللغة الإنجليزية الموصلي الذي لقي حتفه إثر تمرد بسيط ضد سلطة المتشددين في الأسابيع الأولى لسقوط المدينة، قبل أن يدرك السكان جدية مشروع تأسيس الخلافة، كانت قد انتظرت اثنتي عشرة سنة قبل أن يتحقق حلمها بأن تصبح أماً، قضتها في التجول بين الأضرحة والأئمة الأحياء والأموات، والأولياء الأكراد والعرب واليزيديين والتركمان، وارتداء الحجابات الواقية للشيطان، وتعاطي الأزهار المجففة والعظام المطحونة والمواد الكيميائية المختلفة وشرب المياه المقدسة في الكنائس والتضرع للأيقونات والغيبيات.

"قاهر هو الاسم الذي نناديه به في الملجأ منذ وصلنا وهو في السابعة. اسمه القانوني غير محدد إلى الآن بحكم عدم اثبات مسقط رأسه وهوية والديه. بما أنك ولي الأمر القانوني الآن، يمكنك تغيير الاسم كما تشائين."

هكذا أخبرتها موظفة ملجأ الأيتام الذي يستضيف الدفعات الأسبوعية من الأطفال القادمين من منشأة التدريب التابعة سابقاً لتنظيم الدولة الإسلامية في شرق الموصل بعد أن اختفى البالغون تاركين خلفهم القاصرين المختطفين عرضة للموت جوعاً، ثم أضافت:

"هذه حاجياته التي احتفظنا له بها. يمكنك التخلص منها إذا رغبتِ."

وضعت الرزمة على الأرض وأردفت:

"كان سيأخذها معه إلى معسكر تلّعفر للخضوع لتدريب عسكري مكثف لكننا أنقذناه في اللحظة الحاسمة لحسن الحظ. ليس بحاجة لهذه السخافات بعد اليوم."

كانت وفية في عالم آخر وهي تلبي آخر متطلبات معاملة التبني. عاشت نعيما لا يوصف خلال الساعات القليلة التي تلت لقاءها الأول بابنها المتبنى، رغم التحدي الذي أظهرته العلاقة منذ لحظاتها الأولى.

لم تعبأ لهروبه منها وهي تحاول احتضانه. لم تعبأ بانتفاضته وهي تحاول تمسيد رأسه المحلوق المملوء بالندب. لم تعبأ بالطريقة الوحشية التي التهم بها حبات الكبّة التي قدمتها له والتي أعقبها بنبرة آمرة: "اعطِني المزيد." لم تعبأ بنفوره من الدمى المحشية والعاب الليغو التي أهدتها له حين دخلا السيارة. لم تعبأ بمحتويات الرزمة التي أودعتها موظفة الملجأ بعهدتها، بل لم تلق عليها نظرة واحدة. لم تعبأ بالكراريس التي احتوتها الرزمة، والتي خط في أعلى كل صفحة منها عبارة "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل." لم تعبأ بكتاب الرياضيات الذي تزين غلافه صورة بندقية رشاشة مكونة من معادلات حسابية، أو بكتاب التاريخ الذي يركز فقط على سنوات الإسلام الأولى والغزوات، أو بكتاب "الإنجليزية للدولة الإسلامية" الذي يعلم المبتدئين كلمات "قنبلة" و "قناص" و "جيش" في صفحاته الأولى. لم تعبأ بالطريقة التي صورت بها كلمة "امرأة" دون ملامح خلف ضبابة سوداء من النقاب.

ولم تعبأ بما نقب من أجله في رزمته حين طرحت حجابها جانبا واتجهت نحو المطبخ بعد أن وصلا البيت، البيت الذي أصبح أخيراً وبعد الوحدة المزمنة ولهفة السنوات الطويلة بيت الأسرة الحنون التي طالما حلمت بها. لم يسعها الوقت أن تعبأ حين أخذت ترفس وتركل بأطرافها في الهواء. كان قاهر قد انقض عليها لينحرها بمهارة من يمتهن نحر النعاج، متمتماً:

"باسم الله الرحمن الرحيم. اللهم تقبّل مني. وبذلك أمرتَ وأنا من المسلمين. خذي أيتها النجسة. هذا ما تستحقه الكافرات أمثالك من أشبال الخلافة. والثواب من عنده تعالى. ألله أكبر."