loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

نادية وغلاية شايها العجيبة

breakLine

 


زينب خضير الزبيدي || قاصة عراقية

 


لطالما أحسست بخدر مفاجئ،
وبأصوات صفير متقطع، تجوب صدري المنخور بالسكر،
فقد ظل ذلك المرض المجنون والذي لا يقبل أن يستكين فيّ أو يمتزج مع جسدي في أبدية العذاب والوجع،
إلا أن يباغتني على حين غرة، رغبة منه بالتشفي .
أستل روائح ما صَنعتُ وأبتكرتُ في نفسي من أشياء،
فمازالت أوتار عزفها المنسية مخزونة في روحي، تُربت بيدها المرمرية على بقاياي .
نادية ..
ما أرق حروف أسمها في شفتي.
فهي أثمن ما أمتلكت من رحلتي المترفة بسنواتي الموغلة بحبها، مع زمن جلل ذكراها في قلبي كضوء في عتمة .
فكلما خطوت هنا بقدمي أو مررّت عيني في أرجاء ذلك المطبخ الدافيء دائماً، أتخيلها هنا.
مسكوناً بصوتها، مبتلاً برائحة خبزها حين يمتزج مع 
عطرها  الآخاذ.
فالكثير مما حدث في السنوات العشرين الراحلة هنا.
ربما لأنها تختلج الأبواب التي تطاول عليها الزمن،
فبعضها لم يفتح منذ سنين موحشة، عاجزة مثل مشلول حتى عن الحركة.
هَرمت بتقادم ألمها، تئن بصوت مبهم تمتزج فيه همهمة حزن
ربما من حكاية أخرى .
فبالرغم من أني حاولت كثيراً فك طلاسمها المعقدة،
إلا أنني بقيت في حيرتي معها، لمدة لم تقل عن مائة دهشة.
فهي مع كل فجر منبثق الضياء، كانت تتأهب وتستعد لكل حروبها النهارية في حفلات مطبخها،
تلك المنتظرة والمحتشدة لها كوحش أسطوري، 
كي تصحو للبدأ بالمعارك المبكرة معها.
فقد كانت نادية فنتازية الرؤى،
فهي حتى في أحلامها ،كانت تتحضر وتتحصن بإمكانيات لطالما أعتقدت أنها كبيرة، تتقدم أفواج تحضيراتها تلك
وتبدأ بالمراوغة ثم الهجوم الكاسح.
فتحت هذا الوجد هناك جرح لم يندمل بالكامل كنتُ أراه يبعث من وحشة رقدته الأبدية .
والتي ساهمت هي ببطولة مطلقة وأجادت العمل بها، 
كزوجة حانقة على حياتها الهادئة والمستكينة معي بإيقاع واحد متكرر .
وهي، وبالرغم من كل برجوازيتها العالية كإمرأة من رياحين ونعناع .
وكطباخة ماهرة تحّضر كل أنواع الطعام والحلويات،
بسطوة كاملة على مجريات الأحداث في تلك البقعة الصامتة التي تسميها المقصف، 
فقد أحدثت فيها مع أمي ومنذ البدايات بعض الهدن والمصالحات التي ترتبت على إستراحتها كمحاربة نبيلة.
إلا أن موت أمي المبكر، أدرجها ضمن التفرد والحكم المطلق
فهناك هي لا تقبل بالخيانات والمداهنة والخديعة .
فقد أسهمت وهي السيدة الأولى وصاحبة المكان بإمتياز في الكثير من إرساء السلم عبر إتفاقيات شتى مع أوانيها وأدواتها المطبخية التي جلبت معها البعض كتراث عائلي محبب ..
جاءت نادية لبيتي وأزهقت روحي المتعفنة وأبدلتني بروح أخرى.
روح تضج بها كتوأمة وحاستها السابعة .
فقد كانت تلك المرأة فاتنة بكل ما لديها من سمات وطباع . مثل ساحرات القرون الوسطى شهية كزخات مطر ربيعية .
تجيد مع كؤوسها وغلايتها والأقداح والصحون لغة لا تعرفها إلا هي، وبدت كعروس تضج بألوان الحياة كمدينتها التي تختلف عن أزقة مدينتي الصغيرة والمهملة .
وبرغم كل الفروق في المسميات إلا أنها كانت تحب تسمية الأشياء بمسميات هي من تخترعها من وحي ثقافتها التأريخية المترعة بكل ما هو غريب وعجيب .
فقد كانت تسمي غلاية الشاي " القوري" كمثال حي
"أتيلا الهوني " وعندما كنت أسألها متعجباً
_  لمَ ؟
كانت تجيب بمرح منسجم مع شفتيها الباسمتين دائماً 
_ لأنه ببساطة يتيم الأبوين وصاحب دم أزرق وبوزه الملوي للأمام يوحي بأنه يساري عتيد. 
لن يقتنع بالموجود وسيكون ضمن قوائم المعارضة .
فأضحك من عقلها وتجلياته، عندما تجزم لي جادة
أنه كما يبدو على سحنته العميقة، كأحد الدعاة البارزين للمساواة والحرية الفكرية .
وكانت قد أضافت له فيما بعد أسماً آخر يدعو للتهكم والضحك فكلما كان شايه ناعم ومعتق وبطعم مميز، نادته "بأتيلا الهوني"  إلا أنها سرعان ماكانت تنقلب عليه فجأة فتسميه
"عطا الله" عندما تصب الشاي فيحرقها ببخاره الكثيف، أو يكون طعمه مر وثقيل .
وكان "عطا الله محمد " هذا صديقاً قديماً لوالدها وكان ثرثاراً دميم الوجه مهذاراً نزقاً ينادي على بضاعته من الكتب المستخدمة في الأزقة والشوارع كبائع متجول وحيد يدعوه والدها المتقاعد ليشرب الشاي كل صباح معه في حديقة بيتهم الكبيرة ،كما قد روت لي حينها بعض الحكايا عنه .
وكان قد توفي وحيداً لأن زوجته تركته وهاجرت مع أولادها الأربعة إلى أمريكا وقتها .
فأحبت أن تحيي ذكراه إكراماً لوالدها .
صباح اليوم أستفزني حلمي بنادية كانت تحضر الفطور على عادتها وسبقتني إلى الحديقة لتهيئة الطاولة لفت نظري أتيلا وهو يراقبها بصمت مطبق من النافذة ، وكانت تسترق النظر إليه واجمه وعندما سألتها لماذا هو هناك لم تجبني وأكملت ترتيب المكان وأختفت فجأة .
صحوت بمزاج سيء أتشبث بالصبر ومجاراة السأم والملل اليومي.
وأقتربت وأنا أدخل المطبخ من النافذة لأتفقده ..
_ ربما أصابنا الخلود بسهمه أيها العجوز، بل ربما أخذنا أستحقاق من سبقونا للموت .
هيه ..
_ أتعلم يا عطا ؟
سابقاً لطالما كرهت وجودكَ في حياة نادية، حتى أنني مازلت أتذمر منكَ ومن وجودكَ هنا.
لطالما تسائلت مع نفسي كيف هو شعوري وأنت في عالم 
آخر غير عالمها .
أتذكر عندما رأيتكما معاً وهي تقبلكَ وتتوسل إليكَ أن تسامحها لأنها نسيتك مرة على النار .
كنت حينها أرغب في تحطيمكَ وكسر أنفك الطويل هذا.
لطالما تحينت الكثير من الفرص لأحولك إلى قطع صغيرة حتى لا ترجع لسيرتكَ الأولى .
نعم..لقد كنتُ عاشق غيور أعترف لكَ بذلك . 
كانت علاقتها معكَ تفحمني في عين ذاتي 
فنادية هذه تستحق مني كل الإحترام والحب،يكفي أنها تقبلتني على علاتي ومرضي ورضيت مني بلاشيء
فأنا كما تعلم رجل عقيم لن يجعلها تتذوق طعم الأمومة، غير أني كنت أناني جداً لأني كنت أغار من أشيائها العزيزة أيضاً .
كنت أعتقد جازماً أنكَ ندي الذي ظهر فجأة لتناظرني بمحبتها وأهتمامها وقيمتك الكبيرة في قلبها الجميل والرائع .
لن أغفر لكَ وجودكَ الذي قض مضاجعي لسنوات مضت، فقد عشت عمراً رافضاً الرضوخ والتسليم بوجودك معي .
يكفي أني لم أقوم بتنظيفك من بقايا الشاي منذ موتها هذا
مما يجعلني أحلق في سماوات أنتقامي منكَ بجناحي صقر وأنا أصارع إنكساراتي الكثيرة معكَ .
لكن تذكر يا عطا ..
أننا الآن نجتر معاً ذكرياتنا كذكرين من الأيائل عاش كل منهما يترقب اللحظة لمحو الآخر .
وعندما حان الوقت وأزفت الساعة ركلنا الأنثى الوحيدة بالخطأ وقتلناها .
عندما خرج زوج نادية من المطبخ .
تساقطت دموع عطا لأول مرة وهو يتذكر يد نادية وحنوها عليه وقسوة زوجها الغيور، وكم هو بشوق لسماع أسمه الأول والمحبب لقلبه عندما كانت تناديه أتيلا .