loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

مكياج سريالي

breakLine

 

باسم القطراني/ قاص وروائي عراقي

 

تتفحص المدينة وجهها في مرآة عملاقة أكبر بكثير من توقعاتنا ، تتحس الندوب الهائلة والجروح العميقة والمتغيرات التي تبدو مثل مكياج سيء . المدينة الكئيبة تعبر عن مزاجها غير الرائق من خلال نظرات باهتة عبر المرآة المثبة فوق  الأبعاد الافتراضية ، من زاوية هي الاوضح والانقى .


هكذا يفكر هو بعد كل لطخة لفرشاته على جسد اللوحة المدينة ، اللوحة التي ستعلن عن شكلها النهائي بمزيد من التأني .  لطخات أقرب ماتكون الى طعنات اسهمت في ابتكار الأفكار الأكثر جنونا وسريالية . لقد رسم الكثير من اللوحات اشتركت في اشهر الكاليريات العالمية اكتسب من خلالها شهرة يستحقها ، غير أن عودته إلى مدينته الأم بعد غربة قسرية دامت حوالي نصف قرن ، تغريه في رسم المدينة من جديد مستفيدا من صورتها المنعكسة في المرآة الهائلة . يختار زوايا الصورة التي تبدو اكثر وضوحا ويحدد مدياتها الأقرب والأبعد بحسب ما ترويه المرآة . 


-لن احتاج سوى القليل من عصارات الألوان ، المدينة أكلت الوانها الاساسية بشراهة .


هكذا تخيل وهو يرنو الى وجه المدينة الذي اتعبته طبقات الميك أب الرديء ، أخذ نفسا عميقا من غليونه فيما بصره يخترق الألوان المتشابكة مثل اذرع اخطبوط ، يعود الى ممارسة هوس اللطخات الحارة ، يشعر أن يده ترتعش فالمدينة بدأت تتشكل سرياليا وغرائبيا ، جسد اللوحة يستقبل الكدمات بشكل عجيب و الفضاء يشهد تراجعا واضحا لبعض الألوان . 


ينصت لسمفونية المدينة الغائرة ، صوت باهت يندفع عبر مسامات اللوحة ، يمتزج بلطخات الفرشاة الوحيدة التي يستخدمها . 


ايقاعات خفيضة لطبول على انغام الهولو بدت بعيدة سرعان ماتلاشت في المدى .


- ياه كم كنت احتاجها لتعيد ما تناثر من الوان باردة بعيدا عن جسد اللوحة المدينة .( تمتم بصوت خفيض ) . 


اللوحة تتماهى مع شكلها الاقرب للحقيقة ، يرمقها عبر نفثة دخان من غليونه فتظهر كقرص خبز محترق ، يده آخذة بالأرتعاش ، صوت ناي بعيد ينعى ماتبقى من الوان في العصارات ، اليد المرتعشة تحاول عبثا الامساك بطرف النغمة المنسرب نحو البعيد ، الفرشاة تتلوى وهي تحاول اللحاق بنفخة الناي الهاربة ، الحاجة الى اللون تنحسر  شيئا فشيئا ، الدهشة تخبو عبر المسافة بين اليد المرتعشة وحافة الفرشاة . 


هذيان مفاجئ يصدر عن جسد اللوحة المسجى على قارعة المرآة العملاقة ، المدينة تغط بنومتها الأخيرة ، يبدو بأن الحلم قد بدأ يخرج من رأسها ، تبكي ، تضحك ، تتراقص ببلادة ، والفرشاة ترمم كل هذا الهوس لتحيل اللوحة الى وجه بلياتشو . 


الغليون يستنفذ رمقه الأخير عبر آخر نفثة دخان في الفراغ ، يتصاعد اللون الرمادي ليستقر في المنطقة الحرجة بين المدينة والمرآة ، يتجمد ، يتجسد بهيئة غيمة عابرة ، يحاول هو جاهدا تبديد هذا الركام دون جدوى والمرآة لاترى الآن ، المدينة تحملق في وجهه بفجاجة وبرود ، يشعر بالغضب ، يرمي بالغليون بقوة صوب الكتلة الرمادية التي حجبت المرآة ، يسمع من بعيد صوت الزجاج المتناثر الذي أحدث صوتا مدويا ، تشققت اللوحة ، ومن جسد الرسام استخرجوا لاحقا عشرات الشظايا ..