loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

مدينة ولدت من حفيف نخلتين

breakLine

 

علي العلاق | شاعر عراقي

 


كان ثمة ظلام خفيف يبتعد عن مطار العين شيئاً فشيئاً، حاملاً معه حقنة من نجوم الليلة الماضية، فاتحاً الطريق لفجر صغير، يتجمع على مقربة من المطار، ويتقدم شفافاً دافئاً، في اتجاه صالة المسافرين، لم يكن ذلك الفجر قد اكتمل، تماماً، في تلك اللحظة، بل كان في بداياته الأولى، خليطاً من ظلام يبتعد وفجر دافئ في بداية تكوينه. ويتصاعد، خلال إحدى قصائدي، بت روحي مع هذه المدينة، طافح بكل ما تهجس به الروح من مجهولي قادم

ريتما ستكونين حزني الذي لن يجف

حنيني الذي لن يخفّ

التفاني الذي لن يكت

تكونين أغنية تتقاذفني

بين كرخ و شام...

ثم تبلغ القصيدة نهايتها الحائرة

وها أنذا بعد عشرين كارثة...

أتعثر بالضوء من خبرة

ثم أرمي بعكازني في الظلام ..

أن مطار العين لم يكن مطار العين كبيراً. لكنه كان متوهجاً، وملموماً على ذاته يذكرني، إلى حد ما، بمطار صنعاء، الذي اعتدت السفر منه وإليه طوال سنوات ست عملت خلالها أستاذاً في الجامعة هناك، كان أكثر حداثة، إلا أن المطارين كليهما يوحيان بحميمية واضحة لم يكن لي خيار آخر غير الحجز على تلك الرحلة المبكرة لطيران الإمارات المقبلة من عمان، فقد كنت في طريقي إلى العين للعمل أستاذاً في جامعة وصلنا، نحن المتعاقدين مع الجامعة في ساعات الفجر الأولى من الإمارات.

ذلك أن نكتفي بفترة خفيفة من النوم، فثمة أعمال كثيرة في انتظارنا الصباح كان البهو والمطعم يضجان بالأساتذة الجدد وموظفي الجامعة القادمين لاصطحابنا، وكان ثمة خارج الفندق، سماءٌ من اللهب والزرقة الصافية، أما في الداخل فقد كان مقتل الأميرة ديانا سيد الأخبار جميعا في

اليوم الأول من سبتمبر 1997 كانت أقامتنا في هيلتون المدينة، وكان علينا ذلك الصباح الحار.

وما زلت أذكر ، بالتذاذ ومحبة، يوم وصولي هذه المدينة قبل شهود لغرض المقابلة. في ظهيرة ذلك اليوم كنت على موعد مع صديقي ابراهيم السعافين، الذي كان وما يزال من أكثر الناس نبلا واكثر صداقاتي رباً إلى نفسي كان في آخر أيامه رئيساً لقسم اللغة العربية بعد أن قدم استقالته من الجامعة، كان برفقتنا .د خالد سليمان فليفل الذي كان أستاذا في القسم. بعد أن تناولنا طعام الغداء، اتفقنا، د. السعافين وأناء على اللقاء في السكان المحدد للمقابلة، على أن تلتقي بعدها، في منزل الدكتور خالد اليل للعشاء

وقبل أن نفترق ذكر لي الدكتور السعافين ملاحظة أربكت مزاجي إلى حد كبير، مع أنه قالها بلطفه الجم وابنسات المعهودة عرفت أن المنافسة مع مرشحين آخرين على وظيفة للتدريس في الانتساب الموجة كنت أسمع عن هذه الوظيفة. وكنت أجدها عملاً مجهداً، ويفتقر إلى الجاذبية . ربما كما أن من يتولاها لا يحسب عادة، على كادر الجامعة المقيمين في العين، بل يتحتم عليه الانتقال بين مراكز الانتساب الموجه في المدن الأخرى في إمارة أبوظبي لتدريس الطلاب، بمن فاتهم الكمال دراساتهم الجامعية فالتحقوا للعمل في مؤسسات الدولة.

أحزنتني كثيراً هذه المعلومة المتأخرة، والتي نزلت علي كا نظرت إلى إبراهيم السعافين نظرة فيها من عتب الصداقة قدر ما فيها من الندم على المجيء، وكشفت بعبارة صريحة عما كنت أفكر فيه


"لو علمت بطبيعة الوظيفة لما تكلفت كل هذا العناء"

أدرك د. السعافين ما أنا فيه تلك اللحظة، فهون علي الأمر بنيله وخفة روحه ذهبنا إلى المقابلة، وقد تركت في فندق الجامعة مجموعاتي الشعرية وكتبي ومزاجي الذي قد يكسبني تعاطف اللجنة وتفاعلها.


كانت اللجنة تتكون من أهم القيادات الأكاديمية والإدارية في الجامعة. هادف الظاهري، مدير الجامعة، وعلي النعيمي، نائبه، وشبيب المرزوقي، الأمين العام للجامعة، ومحمد يوسف نائب المدير للشؤون العلمية.

وعبد الوهاب أحمد عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإبراهيم السعافين، رئيس قسم اللغة العربية.

كان سؤال اللجنة مفاجئاً بكل المعاني لماذا قررت أن تترك جامعة صنعاء؟»

كان علي أن أعبر بوجدان حي عما يربطني باليمن من أواصر ثقافية وأكاديمية وإنسانية، وعما كنت أحظى به من مكانة في جامعة صنعاء، طلبة وأساتذة ومسؤولين طوال عملي فيها لست سنوات، أنا هنا من أجل خبرة أكاديمية مضافة، وبيئة علمية مختلفة. ويبدو لي أن إجابتي تلك كانت بداية موفقة للحديث. وهكذا سارت المقابلة بسلامة وأريحية، أفصحت اللجنة فيهما عن نبل وتفاعل واضحين خاصة وأنني من أوائل الأساتذة العراقيين الذين يلتحقون بجامعة الإمارات بعد قطيعة خليجية شاملة مع العراق منذ دخوله الكويت بدت المقابلة، في بعض مقاطعها، وكأنها ندوة ثقافية وشعرية وإنسانية، تخللها الشاهد الجميل، والدفء الشخصي، وكان الحديث عن منجزاتي، شاعراً وناقداً وأكاديميا، شديد الحضور.

في المساء كنت في بيت الدكتور خالد سليمان في انتظار الدكتور السعافين لم يكن فضولي كبيراً لأعرف انطباع اللجنة عن المقابلة، فما حتى تلك اللحظة، ىهين مزاج عكر لم ابرأ منه  تماماً، دخل الداكتور السعافين بوجهه البشوش، وهو يرسم بإيهامه علامة الإعجاب "تركت فيهم انطباعاً مدمشاً"

لم تفتح هذه العبارة أساريري كما ينبغي، فطبيعة الوظيفة لم تكن، بالنسبة لي، على قدر كافٍ من الإثارة، أدرك د. السعافين حراجة اللحظة التي أغرق فيها . وهنا، فاجأني بعبارته التي قلبت مزاجي كل :

"لقد قررت لجنة المقابلة، بالإجماع، استقطابك لتبقى في الجامعة، وسيتم اختيار مرشح آخر للانتساب الموجه، ثم أكمل بعبارة لا أدري إن كان يقولها عن نفسه، أم عن لجنة المقابلة، فليس من السهل دائماً أن تجتمع الأكاديمية والشاعرية في إنسان واحد" .

 

ومنذ ذلك اليوم، بدأت علاقتي الحميمة بمدينة العين، هذه المدينة المدهشة وجامعتها الفتية. تلك العلاقة التي يمكن إجمالها، مجردة من مبالغات الخيال، بأنها أكثر سنوات العمر توهجاً شعرياً وأكاديميا وإنسانياً. كان مدير الجامعة، في تلك الفترة، د. هادف الظاهري كان إنساناً ومسؤولاً وأكاديمياً، في منتهى النبل والتواضع الذي يبعث على الحرج أحياناً. وما زلت أذكر ذلك اللقاء الجميل الذي جمعني كنت قد انتهيت من محاضرتي، واتجهت إلى مكتبي في القسم. كان الفصل الصيفي في ذروته، حرارة وأعباء تدريسية.


فجأة كنت وجها إلى وجه مع د. هادف الظاهري. وقفنا في تلك الظهيرة، وهو مظلة من كلام لا يراه أحد سوانا يتني فيه على شعري، وعن ترقياتي إلى الأستاذية.

وقبل أن نفترق، قال لي: لم أقرأ لك شعراً جديداً منذ فترة.

وأردف ممازحاً:

هل يرهقونك بالجدول الدراسي؟ سأعاقبهم على فعلتهم هذه!

كانت لمسة شديدة الدلالة ما أزال أذكرها حتى هذه اللحظة. وكانت

إشارة بليغة على ما كان يتحلى به د الظاهري من رفعة في الخلق وتلقائية محببة في السلوك، لكنها كانت أيضاً، تتجاوز روح المجاملة المجردة. لتكشف عن متابعته الممتازة لأساتذة الجامعة وتفاعله الراقي مع المميزين منهم في مجالات الإبداع والبحث والتدريس..

وكان الدكتور عبد الوهاب أحمد، وهو أكاديمي سوداني مرموق عميداً لكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية. كان حازماً، وحيوباً، وشديد التهذيب، لم يكن مستسلماً لما يصله من توجيهات، بل كان يتمتع بعقلية جدلية، تناقش وتقترح، وتقدم ما تراه البديل الأفضل، وكثيراً ما كان يتحدث، بلطف بالغ، عن دور الكفاءات العراقية في التأسيس الأكاديمي الجامعة الإمارات، أما قسم اللغة العربية فقد كان خلية متفاعلة وشديدة التناهم، وكان د. محمد الأمين الخضري يقوده بكفاءة أكاديمية وإنسانية
كبيرة.