loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ماكينة جزالعُشْب

breakLine


زهير كريم || قاص عراقي


استطاع السيد (مارسلوت) وبعد كفاحٍ استمر لسنوات التحول الى ماكينة. لقد آزر بين اللغة والدافع والطاقة لكي يخلق حلفاً انتصر به في النهاية على الفوضى كما يسميها. وفي تلك اللحظة الفاصلة التي توجّ فيها مساعيه المخلصة، اكتشف أنه في مساره الشعوري الصحيح، وأنه وجد ذاته أخيراً، والتي كانت ضائعة في مايشبه أخلاط الهوية، إذ كانت مظاهر هذا الإختلاط  تسبب له عدم فهم لما يحيط به، الموسيقى مثلا، إذ لايجد فيها شيئا سوى الطنين الذي يصدر عن الذبابة، الحب الذي يقرأه في الكتب، والتي تبشر بفكرة أن الحلول في المنطقة التي يسمونها البهجة العاطفية، هي التسامي الذي يحصل للنفس،   فهو يعتق  ان هذه الفكرو جاءت إلى الوجود من الهراء الذي يكتبه الشعراء، أولئك الذين يذهبون دائما في الطريق بدون خارطة. لهذا كان تحوله _ كما يرى _ بعيداً عن فكرة الوقفة في لحن موسيقي، للبدء من جديد بجملة أخرى، بل كان أقرب الى مغادرة اللحن كله.

وفي تلك اللحظة الفاصلة التي توج بها سعية  باكتشاف ذاته، صدمتْ سيارة يقودها شاب متهور العجوز (ماري( جارته وهي تعبر الشارع، حينها ألقى نظرة خاطفة على المشهد ولم يفعل شيئا، لم يتحرك من مكانه، لم تتأثر ولا حتى شعرة واحدة في رأسه، بل واصل عمله في جز العشب على تخوم حديقة البلدية، واصل عمله وكأن ماحدث لايعنيه اطلاقاً. لقد كان (مارسولت) الشاهد الوحيد على الحادثة، بالرغم من هذا، حين حضرتْ الشرطة لم يستطع قول أي شيء مفيد: هل كانتْ السيارة مسرعة جداً مسيو، اقصد كم تقدر سرعتها؟ هل كانت السيدة منتبهة، هل ماتت مباشرة؟ سأل الشرطي والسيد مارسولت أجابه بجملة واحدة، وبنبرة ميكانيكية كانها تصدر عن روبوت: لا أعرف، كنتُ أجز العشب وحسب، لاعلاقة لي بالأمر أيها الشرطيّ، أنا أجز العشب وحسب.

و قبل هذه الحادثة كان قد أدرك بعقله الآلي أن الصيغة التفضيلية للكائن تظهر عندما يتخلص من الزوائد، من الأعباء والإضطرابات الشعورية، او اللا شعورية، والتي تجعل صورته ناقصة دائماً، محتاجة الى الترميم، او مايسمونه (الفنشنك) ليبدو كل شيء متناسقاً. وماحدث له كان ازاحة القناع الذي طالما شعر بأن ما يصدر عنه هو مجرد نظرة تراجيدية، او مايشبه الضباب الذي يغطي مرآة وجوده.
وفي الواقع أن التحول لم يحصل هكذا فجأة، فالانتقال الى كيان آخر، ماكينة مثلا يحتاح الى الكفاح والمثابرة والتصميم والإيمان أيضا، ولقد فعل الرجل الخمسيني كل هذا بإخلاص، إذ واصل ولمدة طويلة خاصة السنة الأخيرة، المثابرة في محاولات صعبة ا أراد بها أن يصل الى نقطة البلادة العاطفية. زوجته السيدة دوسيتا تسميها اللامبالاة، او السقوط في حقل الحياد ،لكنه يقول: لا إنها الماكينة، ماكنة جزالعشب التي تسحبني اليها. مدير البلدية منحه وساماً في احتفال كان الهدف منه تكريم الموظفين، وحين تقدم لتسلم ميدالية الموظف المثالي، لم يبتسم، لم تظهر عليه تلك الحركات التي يقوم بها المُكرمون تعبيرا عن فرحهم، وقف مثل رجل آلي أمام تصفيق الزملاء، وابتساماتهم الواسعة التي وجدها شيئا لامعنى له.
حسنا، كان لابد أن أقول لكم إن السيد مارسلوت احتفظ ببعض المشاعر المألوفة قبل هذا، لكن هذا الأمر جعله على الدوام مرتبكا، فقد كًبٌر على عيب وجداني ارهقه وارهق العائلة، متأرحجا في منطقة التبلد، وبين ماعلق به من حيوات عاطفية يشترك بها مع الآخرين، ولم يكن أمامه في النهاية سوى خيارين. الأول أن يطور قابلياته العاطفية كي يستطيع التفاعل مع البشر، زوجته خاصة والتي تقول انها يأست بعد عمر طويل من فكرة ان ينام معها باعتبارها بشرا وليست دمية، أو إنه يفعل شيئا ليجعل الجزء الوجداني البسيط منه خاملاً الى الأبد.
لكنه في أحد الأيام شاهد ماكينة، روبوت لجز العشب، راقبها وكانت تعمل بكفاءة طوال النهار، صارت الماكينة مصدر شغفه، معجب بهذه الروحية التي لايعنيها أي شيء سوى الدوران والعمل طوال النهار قبل أن تصمت بنفاد الطاقة المحددة لها بساعات العمل. وكانت الماكينة تذكره دائما بنقصة، بالحالة الآثمة التي يجب أن يتطهر منها لكي يعيش بحالة تصالح مع ذاته.
قدم أوراقه للبلدية: أريد ان أعمل في جزء العشب، وأعدك أيها العمدة أني سأكون أفضل من قام بهذا العمل في المقاطعة. هكذا تكلم مع المسؤول في مقابلة العمل، وهكذا استطاع بعد سنة من الكفاح أن يتحول الى ماكينة، ولم يكن يعنيه العالم، ولم يكن يفرحه ولايحزنه عندما كانوا يطلقون عليه إسما مُضحكا هو: السيد ماكينة جز العشب.