loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

مابين رحيل وعودة

breakLine

 


رهف العقابي | قاصة عراقية

 

ما الذي عليه أن يفعله في حالة كهذه، ‏وهو عاد محملاً بحقائبِ الخوفِ الثقيلة. يقف في مطار بغداد الدولي ينظر من بعيدٍ عسى أن يرى أحد أبنائه آتٍ لاستقباله، بعد غياب دام ثلاث سنوات، وهو يحمل ميدالية منقوش عليها من جهة اسميهما (ايان وريان) ومن الجهة الأخرى صورة تجمع العائلة معا...
‏يقفُ مرددا: أخيرا عدت إليكم وظل يتذكر كيف قضى ليالِ الغربة بتأمل ملامح ولديه وزوجته، وأصواتهم التي لم تفارقه طيلة تلك المدة التي مضت على انتظاره. حفنة من الساعات تتخللها عينان مغرورقتان بالدموعِ وابتسامة باردة مليئة بتفاصيل الغربة التي أرغمته على ترك عائلته. انقضت الساعات ولم يأتِ لاستقباله أحد! ‏ خيم اليأس على وجهه المليء بالتجاعيدِ، سار نحو باب الخروج وأستأجر سيارة من المطار، وعندما جلس وانطلقت السيارة سأله السائق إلى أين يا عم؟
-أطلق نظرة طويلة في صورة ولديه المطبوعة على ظهر تلك الميدالية، حتى هطلت ‏الدموع على الصورة..
أعطاه السائق منديلا ‏مسح به دموعه، ‏وقال يا ولدي لست أدري إلى أين أذهب فقد أرسلت إيميلا لولديَّ ‏لكنهما لم يجيبا...!
حتى زوجتي بعثت لها رسالة وأخبرتها بأنني سأعود يوم الجمعة، ولكن هي الأخرى لم تجب على رسالتي.. ليس ثمة أدنى شك أنهم قد غيروا عنوانهم أو حتى إيميلاتهم لأنهم لو يعلمون بعودتي لرأيتهم ينتظروني في المطار كما في سفرتي السابقة، لكن لا أعلم ما الذي حدث معهم. 
حسنا يا عم ‏هل تتذكر آخر عنوان أقاموا فيه؟ 
-نعم أتذكر العنوان الذي تركتهم به قبل أن اسافر، وهو كائن في منطقة كرادة مريم ‏في إحدى الشقق التي تطل على نهر دجلة. حسنا يا عم عرفتها كان لدي صديق يسكن هناك مع عائلته ‏وبعد أن تزوج وأنجب ابنتين أصيبت زوجته بمرض الثلاسيميا وأصبحت تستيقظ وتنام على برودة قناني الدم التي تنساب في عروقها، وكان في كل مرة يتبرع لها من دم لأنه مطابق لصنف دمها. ‏استمرت هذه الأحداث سنة ونصف حتى بانت عليه علامات التعب والإعياء، وصار بين فترة وآخرى يصاب بدوار شديد، يسقطه مغشيا على الأرض حتى انه بدأ ينحف ولم ينتبه إلى نفسه لانه كان مشغولا كل الوقت بعلاج زوجته التي تصغره بخمس سنوات، والتي ملأت قلبه وجعلته يترك العالم وراء ظهره،
‏وحتى تخلى عن أمه وأخيه، ‏لأنهم لم يوافقوا على زواجه، فتركهم من أجلها فهو يحبها ‏لدرجة الهيام.. أو الجنون ربما، يكون هذا الوصف أدق..
‏صمت العم عدة ثوانٍ ثم أردف قائلا:
-يا بني أتذكر ما اسم ذلك الرجل الذي رويت لي قصته الآن؟ حسبما اتذكر كان اسمه ريان، أوه انه يشبه اسم ولدي الذي كنت بانتظاره ولم يأتِ ‏ربما يكون هو؟! ‏أتعتقد ذلك أم أنها مجرد صدفة أو تشابه أسماء؟
-لا أعلم يا عم أحمد رجائي ألا يكون هو ذاته، لا بأس يا ولدي سنعرف قريبا لن يبق إلا القليل وسنصل اليهم. وبعد مرور عشرة دقائق من الصمت الذي طرق أبواب الذكريات في ذلك الشارع المؤدي إلى شقة أحمد وصلا إلى ذلك العنوان، نزل العم أحمد بعد ما دفع الأجرة ثم وقف أمام باب الشقة وهو ينادي بصوتٍ مرتجف؛ ايان.. ريان..
سيما... 
أنا هنا عدت من اجلكم أين أنتم؟
فلم يجبه أحد، ولم يسمع سوى صوت ازيز السيارات في الشارع. قيدته خيبة الأمل فبقي صامتا! ناديته ياعم ‏يبدو أنهم قد غادروا المكان تعال معي لنطرق باب الجار، قال سأقف هنا وأنت أطرق باب هذه السيدة التي تشاهدنا من خلف زجاج النافذة، وعندما طرقت الباب بمفتاح السيارة كان العم أحمد بحالة يرثى لها وبعد أن فتحت السيدة المسنة باب الشقة سألتها عن جارتها السيدة سيما وأولادها، حيث قالت لم يبق منهم أحد غادروا المكان منذ عام على الأقل وبعد أن اضطر والدهم الى السفر، عملت الأم في احدى مجمعات التسوق في الكرادة، وقد عمل معها ابنها الأصغر ايان حتى يؤمنوا مصاريف العيش والدراسة، وابنها الأكبر ريان تزوج في محافظة أربيل شمال العراق، وأقام هناك بالقرب من أهل زوجته لأنها كانت الوحيدة لأهلها، ولم توافق والدتها على الزواج إلا بشرط واحد، وهو أن يقيما بالقرب من بيتها.
‏حاول ريان أن يقنع أمه واخيه بالذهاب معه إلى أربيل لكنهما رفضا أن يتركا بيتهم، وأن ‏يسافرا معه كونهما مرتبطين بعمل هنا ويقبضون معاشات جيدة تكفي لسد متطلبات الحياة، فقد طلبت سيما من ابنها ريان ترك حبيبته التي التقاها في إحدى الرحلات الجوية المتجهة إلى تركيا على متن طائرة ما، وقد شاءت أن تجمعهم الاقدار كما جمعتهم تلك الرحلة.. وفي هذا الأثناء بينما كانت السيدة العجوز تسرد لي قصص أبناء العم أحمد ‏نظرت إليه رأيته جالسا على حافة الرصيف، ويجهش بالبكاء كطفلٍ فقد أمه للتو...
ثم قاطعها  قائلا ياسيدة نجمة كيف حالك؟ 
حملقت السيدة نجمة في وجهه لبرهة ثم قالت بدهشة أحمد..
هذا أنت...؟!
‏متى عدت، وكيف حالك؟
‏لم يجب على  تساؤلاتها، بل سألها أين عائلتي هل تعرفين أين ذهبوا؟ أجابت وحاجبيها منعقدان بحزن.. كلهم غادروا...
-إلى أين يا نجمة أخبريني أنا عدت من أجلهم.
للأسف يا سيد أحمد لن تجدهم بعد الآن أو ربما ستجد عائلة ريان فقط..
-لماذا..؟
‏لأن زوجتك سيما، وابنك ايان استشهدا في حريق المجمع الذي يعملان به، ‏ولم نعثر على جثتيهما ‏حتى الآن، فقد أفاد مدير المجمع والأدلة الجنائية بأن هناك  ثمة جثث تحولت إلى رماد. أما ولدك الآخر ريان بعد أن تزوج وسافر ‏ليسكن بالقرب من بيت أهل زوجته، أصيب هو الآخر بمرض الثلاسيميا ومرض القلب الوراثي وفي أحد الأيام خرج  في نزهة مع عائلته بعد رحلة المرض الذي أصاب زوجته، وفترة علاجها، أحب أن يدخل السرور والفرح على قلب زوجته، وطفلتيه الشقراوتين، وعند مرور عدة ساعات على وجودهم في ذلك المكان ‏انزلقت قدم ابنته الصغيرة قرب الشلال حينما كانت تلعب، فركض وسحبها من يدها واحتضنها، حملها وناولها لوالدتها، حيث كانت هناك طفلة أخرى ‏تلعب في نفس المكان الذي سقطت فيه ابنته فركض إليها خوفا من ألا تنزلق هي الاخرى، وقبل أن يصل اليها سحبها والدها فاستدار ريان باتجاه الطفلة ولم ينتبه بأن هناك صخرة صغيرة تحت قدميه! تعثر بها وانزلق في الماء بقربِ الشلال، وفي الوقت ذاته تدفق الماء بقوة عجيبة وسحبه التيار الى الضفة الأخرى.. ظهرت عليه أعراض المرض، شعر بالاختناق لأنه كان قد اصيب بمرض القلب الوراثي، ولم يدرك ذلك فاختنق، ولم يتمكن من السباحة عكس التيار، وانجرف بعيدا.. حتى تحول ذلك اليوم من نزهة الى فاجعة!
وانتهى به المطاف غريقاً...
عادت زوجته الى بيت ابيها مع ابنتيها، ومنذ أن رحلوا من هنا وغادروا بغداد، لم يأت احد ليسأل عنهم وأنت ايضاً، حتى ظن الجميع بأنك مت! هذه هي الحياة، من يرحل لايعود، ومن يعود لايجد ماعاد لأجله...!