loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

لَعنةُ العَجوزِ

breakLine


زيزيت سالم || قاص مصرية

 

تعثرتُ وأنا أعبر الطريق وفقدتُ السيطرة على جسدي بالكامل، ارتطم الألم بالبكاء بالمعاناة بألوان قُزح التي ارتسمت على أنحاء متفرقةٍ من جسدي، من الأحمر إلى الأزرق ثم من الأزرق إلى الأسود .
تحاملتُ على نفسي ورتبتُ حقائبي بتأنٍ شديدٍ خشية أن أنسى شيئًا من أغراضي، وصلتُ إلى الأقصر وأنا في حالة نفسية وجسدية غير جيدة، ولكن العمل لا ينتظر، فقد تواصلتُ مع البعثة التي ستفتتح المقبرة الجديدة بالقرب من وادي الملوك، وقمنا بجولة تفقدية متكئة على قدمي ومتناسية أوجاعي حتى بلغنا ساحة المعبد.

في منتصف النهار حضرتُ اجتماعًا مقررا مع الوفود المشاركة لترتيب المحاضرات اليومية التي سيلقيها علينا خبير الآثار الدولي مستر هوكمان، حيث اتبعَت الشركة هذه المرة تقليدًا جديدًا للمؤتمر، إذ افترشوا الأرض بسجاجيد سميكة تعتليها وسائد إسفنجية عوضًا عن المقاعد. 

وكعادتي أحرص على التواجد قبل الموعد للفوز بمكانٍ في الصفوف الأمامية حيث الصَوْت أكثر وضوحًا، لكن خذلني الوقت في اليوم الأخير أن أذهب مبكرًا فلم أجد سوى مكانًا ضيقًا بجوار سيدةٍ عجوز تجلس القرفصاء، وترتدي ملابس فرعونية وتتابع ما يدور في الساحة بانتباه.
استغرقني الاندهاش لوجود سيدة مثلها في تلك المحاضرة، وما لبثتُ أن حشرت نفسي بجوارها حتى حوَّلت وجهها نحوي ونهرتني بشدة بصوتِ أجش وأصرَّت على مغادرتي المكان.
رفضتُ يالطبع وأجبتها بلطفٍ أن المكان متسعٌ، وأن المُحاضِر أوشك على الحضور، فتقلصت ملامحها بغضبٍ بالغ وهي تشير إلى المُحاضر وإلى الحشد المجتمع في الساحة، تُردد بانفعال كلماتٍ غير مفهومة وتوكزني في جنبي كأنها تتوعدني بالسّوء، حاولتُ الدفاع عن نفسي وإبعادها عني، فإذا بإمرأةٍ جالسة بجواري تسألني أن أُخفِض صوتي فليس هناك ما يدعو لاستيائي، نظرتُ إليها بعصبية لا أستوعب ما تقول، إذ كيف تتجاهل صُراخ العجوز واستفزازها الواضح لي ثم تناشدني الهدوء ؟

بعد انتهاء المحاضرة اصطحبنا الوفد إلى المقبرة لمعاينة المومياء وتابوتها الذهبي وجرد محتويات الصناديق المكتنزة بمقتنياتها من الذهب والمخطوطات والملابس المطرزة، وكلما أدرت وجهي إلى اليمين أو اليسار ألحظ تلك العجوز تراقبني ولا تفلتني من نظراتها .
​​*****
انتهت مهمتنا بنجاحٍ وتوجهت مع البعثة إلى المطار، وبينما نحتسي مشروبًا ساخنًا انتظارًا للطائرة، رأيت تلك العجوز قبالتي تُحدّق في بغضب، ومع أول رشفة انسكب الشاي على ذراعي وانتفخ جلدي وتورّم من شدة الحرارة، طفرَ الألم من عيني وبلّلت وجهي كطفلٍ يدخل أول نوبات البكاء، لا أدري كيف مر الوقت حتى استقبلتني ابنتي وزوجها  بمطار القاهرة، ثم أقلوني إلى المنزل وأسرعت ابنتي تداويني من آثار الحرق بينما أروي لها بإسهابٍ كل ما حدث .
انتهت أجازتي بعد فترة من الوقت فتوجهت إلى عملي أقود سيارتي محملة بهدايا رمزية لزملائي، وبينما تَمرُق السيارة في الطريق الدائري، قفزَت إلى ذهني دون مقدمات صورة تلك السيدة العجوز، فإذا برياحٍ تهب من حيث لا مكان وتنحرف بالسيارة إلى حدود السور الرابض على جانب الطريق فتصطدم به وتنقلب على ظهرها وتعاود الاصطدام حتى تهشّمت تمامًا في لحظاتٍ معدودة، التفَّ حولي المارة وسائقو السيارات يُحاولون انتشالي من الحطام  بأعجوبةٍ مُرددين أن الله قد كتب لي عمرًا جديدًا.
في سيارة الإسعاف رقدْتُ ممدةً ودماء متناثرة على ثيابي وجسدي ينتفض من الانفعال والخوف، وبين الوعي واللا وعي تجسَّدت أمامي مرة أخرى تلك العجوز وهي تشير بيدها اليسرى إلى قلبي وتتمتم بكلماتٍ لها صدىً غريب، وبحركاتٍ دائرية من يدها اليمنى انبعث أزيز عالٍ صمّ الآذان، ثم انتشر ضبابٌ كثيفٌ حتى غابت عن الأنظار .