loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

على الجِسْرِ العَتيق

breakLine

 

 

 

 

 


ليندا إبراهيم | كاتبة وشاعرة
سورية


انتبهَ "أبو تمَّامَ"، إلى وقعِ خطواتٍ تقتربُ من الدَّار، خمَّنَ في سرِّه: "لعلَّ طارقاً من أهل "الموصل" قد قصده لأمرٍ جَلَلٍ"، ذلكَ أنَّ الوقتَ كانَ متأخراً من ليلِ ذلكَ اليوم المشهود.
نهضَ من بين القراطيس، وعُدَدِ الدَّوَيَاتِ المتناثرة هنا وهناك، وريشةٍ لمَّا يجفَّ حبرُها بعدُ، ليستكشفَ من الطَّارق...
كانَ قد أمضى ليالٍ طوالاً، عاكفاً على قراءاتِه ومنتخباتِهِ وأوراقِهِ، يعتصرُ حبرَ روحهِ، وسلافةَ قريحتهِ، وخالصَ شجونِهِ وهمومِهِ وآلامِهِ، لينجزَ " قاصمة الظهر، وقارعة الأبد"...
كان الوقتُ يربُو على الهزيعِ الأخيرِ من الليل ، أما "دجلة"، فكانَ يرسِلُ حُداءَهُ الحزينَ موجاً هائماً بضفافه، وعاشقاً مُوَلَّهاً بحبيبته "الحدباء"، بينما راحت أسرابُ اليمامِ تُنَمِّشُ خدَّ الليلِ العاشق على "الجسر العتيق"...
قيلت أساطيرُ، ورُوِيَتْ حكاياتٌ كثيرةٌ، عن عشَّاقٍ ألقَوا بأنفسِهِمْ إلى "دجلةَ" كرمى حبيباتهم...
كلُّ من قَدِمَ البلدةَ القديمَةَ، ولم يمشِ على الجسرِ العتيقِ، كأنَّه لم يَزُرِ "الموصل" أبداً، حتَّى ولو مرَّ بها حياً حياً، وداراً  داراً، وزقاقاً زقاقاً...
فتح البابَ، وظهَرَتْ أمامَهُ قامةٌ فارعةُ المَجدِ، باذخةُ الشِّعر، وهل يُخْطِئُهُ القلبُ، أو تُنْكِرُهُ الرُّوحُ؟ إنَّهُ "أبو الطَّيِّب"، وذُهلَ "أبو تمَّام" أمام الوافِدِ العزيز:
-"أبا الطيب"!، ما الذي دهمَ الدِّيارَ حتى تأتي من "حلب" إلى "الموصل" في هذا الوقتِ المُتَأَخِّرِ، واللَّيلِ البهيم؟...
ودلفَ "أبو الطيب" إلى صحن الدَّارِ مُطْرِقاً، مُتَجَهِّمَ الوجهِ، مَهموماً، مُبَلْبَلَ البال، وقد خُضِّبَتْ روحُهُ بالدِّماءِ الشَّهيدة التي سالت على أرض الحُبِّ والجَمَال:
- إنهم الرُّومُ الجُدُدُ يا "أبا تمَّام"... لقد استباحُوا كُلَّ شيءٍ في "حلب"، لم يَدَعُوا حجراً ولا شجراً إلا و أتلفُوهُ، سبوا النِّساءَ، وقتَّلُوا الرِّجالَ، وأزهقوا أرواحَ آلافِ الأطفال... سوادٌ في سوادٍ، يا "أبا تمَّام"...
تعانقَ الصَّديقانِ الحميمان، وكأنَّ كلَّ رمالِ الصَّحارى التي كانت قد غطَّت روحَيهما، باتت تنقشعُ أمامَ شؤونِ العين التي سَحَّت بدمعٍ مالحٍ على خدَّين أسْمَرَينِ لم يعرفا إلا الأمجاد، ولم يشهدا إلا البطولاتِ والمفاخرَ التي تغنَّتْ بها الرُّكبانُ، وسارت بها القوافلُ حتى ملأتْ الأسماعَ وغَطَّتْ الآفاقَ...
-حدِّثني أكثرَ يا "أبا الطَّيِّب"...
وبدأ الشَّاعرُ الجليلُ بسردِ قِصَصِ البطولات المعجزة، التي راحت تهْتِكُ سوادَ ليلِ الباغينَ، بينما "أبو تمَّام" يُسَجِّلُ في قرطاسِهِ الأكبرِ، سِفرَ البطولات والأمجاد، ويضيفُ لملاحِمِهِ، ملاحِمَ الحَمَاسةِ والفخارِ، وكأنَّه يستأنِفُ الجُزءَ الأهَمَّ، والفصلَ الأخيرَ من ديوان "الحماسة".
وبينما أخذ "أبو الطيِّب" يُنْشِدُ:
"وسِوَى الرُّومِ خلفَ ظهركَ رُومٌ 
فعلى أيِّ جانبيك تميلُ ؟"
كان "أبو تمَّام" يُكمِلُ تدوينَ رائعته الشَّهيرة:
"السَّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بينَ الجِدِّ واللعبِ"
أمَّا قائدا الجيشَينِ الكبيرَينِ، فتوجَّها إلى ثغورِ الرُّوم الجُدُدِ، بينما أخذتْ "كنيسةُ السَّاعة"، تُرسِلُ رنينَ أجراسِها، يعانِقُهُ أذانُ مساجِدِ "حلب"، وأمَّا حُوريَّاتُ النَّهرينِ العظيمين، فأخَذنَ يُنْشِدْنَ أناشيدَ السِّفرِ الخالدِ على "الجِسرِ العَتيق"...*


*"الجِسرِ العَتيق": جسر معدني على نهر دجلة في مدينة الموصل العراقية، يقال أهدته ملكة بريطانيا أيام الانتداب البريطاني على العراق، ومثيله "الجسر المعلق" على نهر الفرات في "دير الزور" السورية