loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

سَدُّ القُنْدسِ في كَنَفِ الجِيران

breakLine

 

 

 

حنان قباني العقاد |كاتبة سورية

 

 كانَ الشّارعُ الّذي نَسكنُ فيهِ في مُخيِّمِ اليرموك هادئاً رغمَ الاكتظاظِ، وكانتْ سيّارةُ (أبي نظام) بلَونِها الأخضرِ الزّيتيّ، وشكْلها الصّالونِ، تَرْكُنُ إلى جانبِ الطّريقِ..
ذاتَ يومٍ أَرْسَلَتْنا أُمّي إلى الدُّكّانِ القريبِ لِشراءِ سِلعةٍ ما، فَوَجَدْنا إلى جانبِ السّيّارةِ قِطعةً نقديّةً ورقيّةً مِنْ فِئةِ الّليرة، وكان لها قيمةٌ في ذلك الوقتِ، مزّقْتُها جُزْأَين لِأَقْتَسِمَها وأُختي، وعندما رجَعْنا إلى المنزلِ، ضَحِكَتْ أُمّي كثيراً  ثُمّ قالت: "نُعيد إصْلاحَها بشريطٍ لاصقٍ".
كانَ مِنْ أَبْهى وأعظم ِما عِشناهُ في طُفولَتْنا أنا وأَخَواتي وإخوَتي هو تَفهّمِ والدَيْنا لفصولٍ كثيرةٍ مِنْ شَقاوةِ الطّفولةِ..كُنّا - البناتُ- محبوباتٍ جِدّاً مِنَ الجيران، وكانوا أحياناً يُطالبونَنا أنْ ندخلَ عندهُم لقضاءِ بعضِ الوقتِ، يُطعمونَنا أَطيبَ الطّعامِ والحَلَويّاتِ، يُسَلّونَنا، ويَتسلَّوْنَ بوجودِنا. قلتُ لكم سابقاً، كان الجيران مِنَ الطّائفةِ العلويّةِ الّتي أعشقُ، وفي أُولى السّهراتِ الّتي أذْكُرُها، عندما قَدِموا لزيارَتنا، وبعد أَنْ ارْتاحوا، أَخرَجَ كلٌّ منهم مَصّاصةَ المتّة الخاصّةِ به مِنْ جَيْبِ قميصِهِ، كذلك كانتْ زوجاتِهمُ تحملُ المصّاصاتِ الخاصّةِ بهنّ...
بدا الأمرُ لي منظّماً، وكأنّهُ أَحدُ الواجباتِ المدرسيّةِ، كُلٌّ يشربُ بكأسِهِ ومَصّاصتهِ، بعَكْسِنا أبناءِ الطائفةِ الدُّرزيّةِ، نتشاركُ (القرعةَ) الواحدةَ، و(البمبيجةَ) الواحدةَ..
كانت اجتماعاتُنا مع الجيران لطيفةً، عامرةً بالأحاديثِ المُتنوّعةِ التي تصبُّ في صُلْبِ الحياةِ، منَ السّياسةِ، والمجتمعِ، والمطبخِ،  والأهمِ منْ هذا أنّها كانت أنيقةٍ و لَبِقةً، ولا أذكرُ مَرّةً أنّ الحديثَ ذهبَ إلى  المشادّاتِ أو الصّراخِ مهما تنوّعَ، أو تشعّبَ...
أبناء المؤسسةِ العسكريّةِ مِمّنْ تَرَقّوا إلى مراتبَ عُليا، هم منَ الطّبقةِ المُثقّفةِ، وهذا أمرٌ ضروريّ لأنَّ الانتصارَ يتطلَّبُ المعرفةَ والاطّلاعَ على أنواعِ العلومِ المختلفةِ، وبالتّالي عليهم أنْ يتمتّعوا بسِعةِ الأُفُق..وبعكس أخواتي، لم أكُنْ أخرجُ للّلعبِ مع أولادِ الجِيرانِ، بل كنتُ أَلتزِمُ المنزِل، أستمِعُ لأحاديث الرّجالِ، وعندما كَبُرتُ عرفتُ أنّ أحاديثَ الرّجالِ الحقيقيّين لها نكْهةٌ بطَعْمِ العَظَمةِ، و كُنتُ أُكثِرُ مِنَ الأسئلةِ، و أُسْعَدُ بأنْ أَلقى الإجابةَ عند والدي أو عندَ أحدِ أصدقائِه..كانت هذه مُتعتي، وكان هذا فَخْري بنفْسي و بِأَبي...