loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

سيقانٌ تتضاعف

breakLine

 


علي المجنوني || قاص وكاتب سعودي

 

لنهبْ أن واحدا منهم يعمل في مكتب يقع في المبنى نفسه، وجامل اليومَ زميلته التي تعمل في مكتب آخر في طابق علويّ حين عرضت عليه اصطحابَه في فسحة الغداء إلى المتجر الفائق الذي يقدّم الآن تخفيضات موسمية بالجملة، فوافق لأنه في نهاية الأمر لا يدخّن، ويتناول غداءه في المكتب مبكرا حين يقلّ عدد المراجعين، ويسعى إلى إتمام مرحلة حاسمة في لعبةٍ في هاتفه.

هذه السيرة بالغة الإيجاز، والمفترَضة بالطبع، كافية للقول إن لكل واحدٍ من الثلاثة الباقين قصتَه الفريدة أيضا. إذ سيكون من الخطأ التسليمُ بأن الرجالَ الذين جلسوا على مقاعد المتجر، أربعتَهم، متشابهون، بل هم لا شكّ مختلفون في أسمائهم وأعمارهم وأحوالهم الشخصية وهيئاتهم وأردانهم.

مع ذلك وحّدهم الزمان والمكان. لقد وحّدتْهم —على وجه الدقّة— غفلتُهم الاستثنائية التي لا بدّ أنها أمارة من أمارات الدهور. الكراسي التي قعدوا عليها أيضا لا بدّ أنها تنتمي لعصر غير ذا العصر. فقد بدت بقايا ضيافةٍ متقشفةٍ غابرة، بلا ظهور ولا مساند أذرعة، موسّدة مقاعدها ومنجّدة بالزيتوني القاتم، حتى إن الجالسين عليها أمسوا مثل تماثيل جرغول قوطية تحتل زوايا وأسطحا مشرفةً على ميدانٍ يتفرق مُشاتُه على دروب مرصوفة بالحصى. لكن الأهم أن هذه البقعة من المتجر هُيئت بطريقة تشبه مسرحا صغيرا تتحلق فيه بضعة كراسي على أرضية مسجّدة أمام براحٍٍ مصغّر ينتهي بعمود رخامي غُطيت جوانبه بالمرايا.

في ذلك البراح، وفي اللحظة التي تنبّهتُ فيها إلى الجالسين، كانت هناك امرأة شابة. لا نعلم متى جاءت. وليس بمستغربٍٍ إنْ كانت هناك منذ البدء، سابقةً المتجرَ والأثاثَ والبضائعَ والناس. أمام العمود أخذت الشابة تجرّب حذاءً. تنحني، من دون أن تجلس، بما يسمح لها أن تفسخ حذاءها القديم وتربط الجديد. لمّا استقرت قدماها بعد لأيٍ في الحذاء مشت خطواتٍ ثم جعلت تدور حول العمود، تمرّ من ركن إلى آخر لترى كيف يبدو الحذاء وكيف تشعر به القدمان. وإذ أخذت تتحرك أمام المرايا كانت الصورة تنكسر، فيتضاعف ساقا المرأة، وتولد سيقان جديدة متكسرة تكفي كلّ متبضّعي المتجر وتفيض.

يمكن أن تستحث رؤيةُ ساقَي امرأة شابة ووحيدة طيفا واسعا وغيرَ مكتشَفٍ بالكامل من ردود الفعل، ليس أدناها انتباهاتٌ طِفلية عابرة وليس أقصاها رغباتٌ منحرفة. يمكنها أن تعين أحدهم على التطهر من محاولة انتحار فاشلة والتعافي من إدمان بائس، وهذا ما حصل بالفعل لهكتور، بطل رواية «الطاقة الإيروسية لزوجتي»، الذي جعل يتتبّع ساقي بريجيت وهي تلمّع زجاج النوافذ في المطبخ، بعد أن اكتشف في مراكمة المشاهد المنحرفة التي يستنبطها من تلصّصِه هوسا طازجا استبدله بهوسه القديم بجمع الأشياء.

أمّا هذه المتبضعة فقد غابت عنها عينُ الرجال المدرَّبة، وللرجال عينٌ واحدة معروفة بتحديقتها الساطية المستحوِذة التي ما أخفقت أبدا في الحضور. أكملت حول العمود دورتين مُميلةً جذعها تارة ومستقيمةً تارة، وربما انشدّ في حركتها وتر أخيل واستدارت عضلة الساق الرابلة كثيرا. كل هذا بينما ظلّ الأربعة طوال الوقت يستجيبون لأمر غامض وحازم بالتعامي.

خطر لي وأنا أراقبهم، وقد أثقلتني التنانير التي أحملها في يدي، أنهم تواطؤوا على الانشغال عنها. وهل هو انشغال إن لم يكونوا قد تواطؤوا عليه؟ ثم ألا يكون انشغالا بها، لا عنها، إنْ تواطؤوا عليه؟ وكاد أن يقنعني احتمالُ أن يكون الحدث غيابا ما، أن يكون بحثا عمّا لم يوجد، وفي الأحلام والوعود خير مثال. لكن هل أستطيع القول الآن، بعد أن تكلمت عن غياب انتباه الأربعة، إنه ما وُجد؟ أظن أن هناك شيئا يغيب عنّي، فانتباهي أنا، ثم ما أعقبه من استنكار، كان أكبر من غفلة الأربعة مجتمعين.

أخذت المرأة الحذاء الجديد. على الأرجح أنها رأت أنْ تبتاعه. غرزت إصبعين في عقبي الفردتين وغادرت المسرح الصغير ماشية بين اثنين من الرجال، لا فرق —والحالة هذه— بين أيّ اثنين منهم مشت. على واحدة من مرايا العمود كانت تدبر، وعلى زاوية منه انطوت. سرعان ما غابت خلف ممرات المتجر وأرفف الملابس، فخلا المسرح من جديد أمام متفرجين غافلين.