loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

رحلة السيد فارتنبيرغ

breakLine

 

برهان جليل || قاص عراقي

 

استغربت السيدة الطبيبة المتقاعدة فاطمة قرار صديقها السيد فرانك فارتنبيرغ بيعه لمنزله الذي تزوج وربّى أولاده الثلاثة فيه، ووبخته قائلةً له:
- ما الذي جرى لك؟ تبيع منزلكَ بما فيه من أثاث وتاريخ عائلتكَ وذكرياتكَ؟ أين ستقضي شيخوختكَ وأنتَ بهذا العمر؟ لقد جاوزتَ الثمانين يا رجل ولم تتعقل بعد؟
رد عليها بلا اكتراث:
- فاتيما، أنتِ تعرفين حلمي القديم، لطالما حدثتكِ عنه.
قاطعته الدكتورة فاطمة معترضة:
- دعكَ من الأحلام يا رجل، أنت تتقدم في السن، وبحاجة إلى منزل تقضي فيه آخر أيامكَ بهدوء وسلام. عن أي أحلامٍ تتحدث؟ وعن أي سفر عبر البحار؟ ظننتكَ تحلم فقط، مجرد كلام في أمنيات لن تتحقق، وما أكثرها. أرجوك اتصل بالسمسار واخبره بأنكَ عدلتَ عن قرار البيع. لن اسمح لك بخطأ كهذا.
قال فرانك محنياً رأسه:
- لقد تم البيع وانتهى الأمر.
ردت فاطمة بغضب:
- مستحيل.. أنظر، إن كنتَ تحاول التأثير عليَّ أن أسمحَ لكَ بالسكن معي فأنتَ واهم. صحيح أني أحبكَ، ونحن أصدقاء عُمر، لكن هذا لا يعني أن تلعب معي هذه اللعبة السخيفة، وتجبرني على الموافقة على أن تسكن معي. ماذا سأقول لابني مارك وابنتي سارا وزوجها هنري؟ لا لا، مستحيل.
قال فرانك فارتنبيرغ وقد ضاق ذرعاً بثرثرة صديقته الغاضبة:
- من قال لكِ أريد السكن معكِ؟ توقّفي عن العويل والتذمر. أريد شراء يخت بثمن المنزل. أريد أن أمخر عباب البحر وأحقق حلمي. توقفي عن الابتسام ببلاهة هكذا. لستُ مجنوناً ولم يصيبني الخرف بعد. أنا أعني ما أقول. تعلمين بأني عملتُ في صباي مساعد قبطان لقوارب البضائع في قنوات النقل النهري، وكان حلمي دوماً أن أسافر  عبر المحيط.
ردت الدكتورة وهي تنظر في عيني صديقها بتمعن لترى مدى جديته فيما يقول، أو ربما كان مصاباً بلوثةٍ عقليةٍ ما. قالت:
- فرانك، أنا قلقة عليكَ وعلى قواكَ العقلية، أخشى أن تكون مصاباً بخطبٍ ما. كيف ستفسر هذا الأمر لأولادك الثلاثة، فابيان وريشارد وشتيفان؟ وهم ينتظرون موتكَ بفارغ الصبر ليرثوا المنزل؟ هل فكرتَ في ردة فعلهم؟ قد يرفعون قضية حجر عليكَ. هل فكرتَ فيما سيقولونه عنك؟ ثم تعال وخبرني عن أي رحلةٍ في المحيط هذه التي تتحدث عنها ؟ وأنتَ تعرف مدى الاختلاف الشاسع بين الإبحار في شارع نهري والإبحار في أعالي البحار.  
وقبل أن تكمل فاطمة حديثها نهض السيد فارتنبيرغ وحمل حقيبته اليدوية، وهمَّ بالانصراف وهو يقول:
- أنتِ هكذا دائماً. أحمد الله إنكِ لستِ زوجتي. لقد حجزتُ غرفة في هوتيل غلاماروز حتى يوم البدأ برحلتي. سأترك لكِ هنا كارت عنوان ورقم هاتف الهوتيل لتتصلي بي إن رغبتي بذلك. إلى اللقاء. 
عانقته فاطمة بحنان، وودعته على باب دارها الكبير والفخم.
بعد أيام وبينما يستعد السيد فارتنبيرغ للخروج الى مطعم الهوتيل ليتغدى، سمع طرقاً على باب الغرفة. وجد موظف الهوتيل يقف أمام الباب، ويطلبُ منه التوجّه معه إلى قاعة الإستقبال لمقابلة ضيوف يودون التحدث إليه. خرج يتبع الموظف الشاب. 
وجد ابنه فابيان وزوجته فيرونا وابنه الأصغر ريشارد الذي لايزال طالباً في جامعة برلين. ومعهم رجل أنيق يلبس بدلة مع ربطة عنق رسمية ويحمل حقيبة ملفات جلدية. تقدم ريشارد من والده وعانقه برقة، بينما صافحه فابيان وهو يقول:
- أبي، أقدم لك السيد المحامي لانغستر، إنه محامي العائلة، لقد تمكننا بمساعدته وبشق الأنفس من استعادة المنزل، وحجزنا لك غرفة مريحة وجميلة في مؤسسة فورستر. سيعتنون بك هناك ليل نهار، وسنزوركَ اسبوعياً، ونحرص على تنفيذ كل رغباتكَ،  لستَ بحاجة إلى أن تقلق أبداً.
ظلّ السيد فارتنبيرغ صامتاً لا يتكلم، وهم يحيطون به في قاعة الإستقبال، فيما ذهبت فيرونا إلى غرفتة لتحزم حقيبته. عادت وهي تحمل أغراضه القليلة إلى القاعة. ولاحظ السيد فارتنبيرغ أنها صادرت موبايله. قال لفابيان ابنه البكر بأسى :
- كنتُ أحلم منذ صغري أن أشتري قارباً أسافر به عبر البحار و... .
قال المحامي وهو ينهض:
- علينا المغادرة الآن، ليس لدي متسع من الوقت للمشاعر العائلية، لدي الكثير لإنجازه في المكتب. 
نهض الجميع واتجه كلٌّ إلى سيارته متوجهين إلى مؤسسة فورستر لرعاية المسنين. 
ظلّت الدكتورة فاطمة هي الزائرة الوحيدة له طوال الأشهر الثلاثة الأولى في دار المسنين. وفي زيارتها الأخيرة له في المؤسسة، لم تجده في غرفته، ولا في أي مكان من الدار الواسعة والمكتظة بالمسنين. 
بعد بحث طويل من قبل الشرطة وأولاد السيد فارتنبيرغ، جاءهم بلاغ من مدينة كوغس هافن الساحلية، بأن بعض الصيادين وجدوا جثة رجل مسن تنطبق مواصفاته على السيد فارتنبيرغ يجلس في قارب خشبي صغير يرسو على حافة صخرية على ساحل البحر، وقد تجمد الجثة بسبب صقيع الليلة الماضية.