loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ثَمّة رماد في المدينة

breakLine

 

 

 

 

 


رقية تاج || قاصة عراقية

 

 

 


لامستْ رائحة الحريق أنفي، رائحة أخالها أزكمت أنوف الراقدين في مضاجعهم بسلام تحت ستار الليل، إنها النار ترمي بسهامها دون شفقة على حقول القمح الممتدة على طول القرية وعرضها، أشرعتُ الستائر المسدلة ونظرتُ من نافذتي إلى الخارج، لا شيء في الأفق سوى دخانٍ أسود، يا للهول حتى السُحب انقلبت لهيباً.
شغلتني الرائحة عن الاطمئنان على أرضنا الملتهبة، ققد تحرّكت في أعماقي ذكريات هاجعة لاحت معها ظلال ذلك الفتى القابع في صفحات الماضي المتفحمّة.
رغم أني كنتُ صغيراً ولم ألتق معه إلا مرّات خاطفة، إلا أني أتذكر الأحاديث المنسوجة حوله وأحفظ ملامحه جيداً وكأنه أمام عيني، عيني التي لم تره إلا من بعيد، هلال أو فتى الحرائق كما يسميه الجميع، له حكاية جرتْ على كل لسان، كان رشيق القوام ذو وجه جذّاب لكنه حادّ الملامح، وأظنها أصبحت كذلك بعد مشكلته العويصة، له أسنان بيض متراصّة نادراً ما كنّا نراها، فقد كانت ابتسامته باهتة أغلب الأوقات، أما شعره الفاحم فقد كان ينسدل على عينين سوداوين كبيرتين لكن ذابلتين، تبحثان عن مرافئ آمنة من دون جدوى، كان مهذّباً، حاضر الذهن، سريع البديهة، يا ترى أي مستقبلٍ مشرق كان ينتظره لولا نفور الناس منه، ماذا لو احتضنته القرية أو حتى تقبّلته، ماذا كان سيحقق في الحياة حينئذٍ؟ أمي تقول:
- إنّ المشكلة ليست في الرائحة، بل في أنوف الناس الطويلة، وكأنّ روائح أبنائهم العفنة أفضل حالاً، لكنها في النهاية روائح اعتادوا عليها، أما هلال بعد أن اختلف عنهم نبذوه، ماذا لو أعطاه أحدهم عطراً يغطي رائحته الغريبة؟ أو فكروا بصناعة دهنٍ يستخرجوه من نباتاتنا العطرية حلا للمشكلة؟
هذه الاقتراحات التي تجوس في صدر أمي كانت تبوح بها لي يومياً حتى تساءلتُ مع نفسي حينها؛ ماذا لو فكّر آخرون بالحلول بدلاً من زوبعة الأسئلة والاحتمالات، ماذا لو صرّحوا بها بدل أن تكون مجرد همساتٍ مع أنفسهم؟  
أما قصة الرائحة التي طالت مقدمتها، هي أنَّ هلالا ومنذ ولادته تفوح منه رائحة شيء محترق، اختلف الناس في ماهيّته، أهو حطب محروق أم ورق أم مطاط، كلٌ واحد شعر بها بحسب نوع وقوة حاسّته الشميّة.
الأطفال في المدرسة كانوا ينظرون إليه شزراً، بجباه مقطبة وثغور صامتة قبالته، مستهزئة وراءه، ما جعله في أغلب الأوقات وحيداً، حتى انصاع لأوامر والديه وترك مقاعد الدراسة.
عمل في أكثر من مكان، مطاعم، محلات للألبسة، تصليح السيارات لكنه طرد من قبل أربابها، صاحب أحد المطاعم يعتقد أنَّ وجباته احترقت بسبب رائحته، ومالك المحل التجاري يخشى من نفور الزبائن فاعتذر منه بأدب.
لطالما استغربتُ كما الجميع، ما السبب في هذه الرائحة؟ كل نساء القرية ورجالها تولوا مهمّة التقصّي عن السبب.
نبدأ من أول واحدة ميّزت تلك الرائحة، إنها القابلة، تقول روايتها:
- أبو هلال هو من أشعل الحرائق في صدر زوجته، ظلم، نكد، حرمان، وهذا الطفل المسكين اكتوى بتلك النار التي نشبت في عاطفة الزوجة وكرامتها حتى دفع الثمن، أو قد تكون والدته أكلت شيئاً محروقاً، فاللبن الذي تغذي طفلها به ينقل طباعها وأحوالها، لقد قلتُ هذا التأويل لوالدة هلال بعد أيام من ولادتها، أومأت برأسها وكفكت دموعها موافقة.
طبيب القرية يسرد رأيه أو رأي العلم الحديث قائلاً:
- هناك طاقة كهربائية تحيط  كل جسم بدرجات متفاوتة، قد تكون طاقة هلال بَلغت حدّها، لسبب ما لم يُكتشف بعد، إنه حالة نادرة، لو علم أطباء العالم بها لأشبعوها دراسةً وبحثاً، أيّدني والد هلال فرحاً بتميّز ابنه، قائلاً بالفعل إنه كثير الحركة وذو طاقة لا تخمد.
إحدى صديقات أم هلال قالت بأنها عين لم تصلّ على النبي، وأخرى رأت بأنها دخان الخطيئة، ولم تنقل هذا الهاجس للأم بل لنصف نساء القرية.
وهكذا أسهب الناس في شرح مشكلته، رموا بكلامهم وقوداً زادت حالته تأججاً، وبالفعل ارتفعت الرائحة حدّة مع تقدمه بالعمر، وكثرت معها عزلته وانكساره، أصبحت خطواته مترددة، وبات ذلك الفتى القوي البنيّة يمشي بتؤدة كالسلحفاة، ويبقي مسافات كبيرة بينه وبين الآخرين، حتى الكلاب كانت تنبح عند رؤيته وتهرول وراءه.
وفي يوم من الأيام، اختفى فتى الحرائق، ذاب مثل فص ملح وانقطعت أخباره، وكعادتهم مارس أهل القرية هوايتهم المفضلة، تداول الشائعات:
- قد يكون الفتى طَفرَ وهاجر وساهمت المحيطات في اخماد ناره أو ابتلعته، ربما انضم لتلك العصابة التي تقطن الجبل، أولئك الذين يفترشون السهول ويلتحفون السماء ويسرقون البيوت ليلاً، أصحاب الأنوف الحمراء المريبة هم وحدهم من يحتمل رائحة هلال المزعجة، من الممكن أنه قابع في إحدى السجون!.  
أما والدته فتقول:
- أنه لا يؤذي بعوضة، فهو شجاع وذو عزّة، لابد أنه التحق بكتيبة الجنود واستشهدَ معهم دفاعاً عن الوطن، فهؤلاء الحرّاس الذين اعتادوا على أعومة الدخان والحرائق قبلوه بينهم.   
بين أمواج تلك الأصوات بمدّها وجزرها، تلك الأصوات التي شكلتني ألف مرة، مقدساً مرة ومدنساً مرات، أعادتني صرخة أمي إلى الحاضر، بصوتها الذي مزّق بمخالبه رداء الفجر الساكن، وقفتْ على باب بيتنا وصرخت على رجال القرية بغضب:
- أنا هلال لماذا لم تطفئوا ناري في بدء اشتعالها؟. لقد تركتموها حتى استعرت أكثر.
لكن صراخي جاء متأخراً، فقد أكلتْ النار الأخضر واليابس، تنقّلتُ بين الحشود وتناهى إلى سمعي عبارات كثيرة من قبيل:
- إنه فتى الحرائق الذي عاد وأحرق أرضنا، بين تلك الأصوات التقطتُ نحيب امرأة كانت تبكي بكاءً مرّاً وتقول:
- هل سمعتم الأنباء؟ لقد انتهت الحرب، لقد حرر ولدي المحروق أرضنا من نير العدو.