loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

توهج

breakLine

 

 

 


زينب عبدالكريم التميمي | كاتبة عراقية 
               

الزمن ليس له تاريخ هنا. 
كل شيء خانق، رطوبة الأرض تزكم الأنوف، فضلاتنا المتراكمة  والمتجمعة في صفيحة في إحدى زوايا الغرفة المظلمة تبعث على الاشمئزاز والتقيؤ. كل شيء يعدم الحياة...
ثمة مايدعو للقلق، الصراخ يعلو من كل الغرف كلٌ ينتظر دوره  في القرار. كل نظم الحياة هنا متوقفة حتى مياه الشرب التي يأتون لنا  بها بصفيحة صدأة مطعجة، والتي كانت تتلوث من دماء البعض، القحط والشح يصيباها أحيانا، فنتعارك للحصول على شربة منها! تحطمُ أشياء نجهل ماهيتها، تتبادر الى أسماعنا بين حين واخر ،حتى الوقت أصبح في عداد الماضي الساعة فيه منطمرة تحت طين اللحظة.
إلا أن تعالي الصرخات تفتح هاجس إدراكنا ببداية يوم  جديد  وقد تكون نهاية عمر أحدنا  تحت وطأة التعذيب..
أحدهم ينادي باسمي، كما منتظر رفيقي في الزنزانة. سحبونا لغرفة اخرى خافتة الضوء، بدأوا بيّ..  انكببتُ على وجهي، شاعرا بكروية الأرض تحت قدمَيّ حين باغتتني صفعة من ضابط التحقيق، من حيث لا أدري، ثم  إلتفاتة منه إلى منتظر تصاحبها صفعة كسرت له سنّهُ
سائلا إياه: أنت شيوعي؟
-أنا انسان
أجابه وكله ثقة واعتزاز..
اِنسلّت الى الغرفة خيوط شمس مازالت يختلط فيها الأحمر والأصفر، زادت قليلا من إنارتها،  كشفت عن أثر إصابة  لجرح أو حرق على بطنه..
هل  هذا أثر رصاصة، هيا أجب
-بل أثر حرق من ناصية التنور بالمخبز.. 
صفعه مرة أخرى، وأخرى، وأخرى...
لم ينبس بكلمة، عناده أثار غضب المحقق الذي أخذ يدور بالغرفة،  التقط سيجارة من  علبتها، أشعلها، نفث منها نَفسَين ثم  أخذ يغرزها في صدره..
العجب إنّه لم يصرخ! 
أخذ بعدها  نفاضة زجاجية  كانت على المكتب وهمّ بها على رأسه.. غطت الدماء وجهه، وقع لكن سرعان ما عاود الوقوف، صلبا لم يخش ضرباته المتوالية، وأنا آخذا دور المتفرج يملؤني الخوف. أحسستُ لوهلة بصغري أمام منتظر، كنتُ ضئيلا جدا رغم تفوقي عليه جسمانيا، من أين له كل هذه الشجاعة، بينما أرتجفُ رعباً؟!
تذكرت أبي، رزانته وقوة شخصيته وصلابته أمام معترك الحياة رغم ضعف بنيته، تذكرت كلماته؛ الحياة تخلق الرجال والتعب يصنع أبطالا...
لعلّ حرارة نار التنور المنبعثة   تركت آثارها في نفس منتظر فأصبح صنديدا لا يهاب حرارة السجائر في جسمه، الوظيفة والمكتب لم يضيفوا لي تلك القوة الماثلة في شخصه.
التفتَ اليّ المحقق عابس الوجه
-وأنت أيها الفأر المسكين، لنرى ما إذا كنتَ ستقول الحقيقة؟
سألني: معاملات الضمان الاجتماعي الوهمية، والسي دي الذي كان يضم أسماء لاوجود لها أصلا في الملفات المدنية كيف تجرأت على عملها؟ 
سكتُّ لبرهة باحثا عن جواب يهدىء من وتيرة غضبه التي تتطاير شططا من وجهه، لكنه لم يمنحني أي وقت حتى لمجرد  التفكير، جاءتني ركلة أسفل بطني أودتني نحو الحائط 
-ماذا... أليس عندك ماتقوله؟ 
حلفت  أنني لا أعلم عنها شيئا وإن مدير الدائرة هو المسؤول عن تحويل الملفات لي بعد الاطلاع عليها، وما عليَّ إلّا إدخالها للحاسبة، قفز هاجما، ضرباتٌ  باغتتني  في كل  مكان،  نزفَ أنفي،  تورمت عيني،  تضعضع كل مابي! تناول كيس النفايات من السلة، فرّغه في فمي، قاومتُ لكن لم يطل صمودي، صرختُ...
سأعترف!
 أنا.. أنا من زورت الأسماء...
 أخذ نفَساً عميقا، ثم تركني   ملتفتا إليه:  وأنتَ.. 
ألا تتعلم من صاحبك؟ 
نظر إليه، بصق في وجهه.
هل تتلذذ بطعم الدماء في فمك؟  أنتم الشيوعيون أولاد... 
تقرّب منه، ركلهُ مرة ومرتين وثلاث، ثم أخذ برأسه ضاربا إياه في الحائط.
تناثرت الدماء توهجت لمعانا مع انعكاس أشعة الشمس التي بدأت تتغلغل من فتحات شباك الغرفة شيئا فشيء، حاول الصمود أكثر،  عاند الموت وتحامله، خانته قواه، سقط خارّا على الأرض، استمر المحقق بركله على رأسه، قاوم وقاوم حتى لفظ أنفاسه مع آخر حرف خطّه على الأرض بدمه؛   "يحيا عمال العالم"