loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

انسلاخ

breakLine


ليلى عبدالواحد المراني | قاصة عراقية

 

—دكتورة نسمة مشعل، تفضلي.
استيقظت ذاكرتي حين سمعت الإسم، هل هي نفسها صديقتي أيام الابتدائية والمتوسطة؟ أم إنه تشابه أسماء. كنت أجلس في الصف الأمامي في ذلك الاحتفال المدرسي، الذي أقيم بمناسبة عيد الأم. استطعت أن أرى وجهها بوضوح، خاصةً عينيها السوداوين الواسعتين، وكأن الليل سكب فيهما غموضه وسواده. بدأت محاضرتها بإلقاء تحيةٍ حارة أهدتها لجميع الأمهات، "وخاصةً أمي الحبيبة التي تنظر إليّ الآن مبتسمةً، سعيدة من عليائها. أمي، أجدها اختصرت حنان جميع الأمهات و…"
وعلت همهمات من هنا وهناك. 
"هي مَن أوجدتني بما أنا عليه الآن، لن أنسى كفاحها وطموحها في أن تفتخر بي يومًا، وها أنا أقول لها، أنا يا أمي كما حلمتِ بي أن أكون."
وعلا التصفيق 
مدّت تلك الحادثة التي لا تزال عالقةً، بل وشمًا في ذاكرتي، عنقها متسائلة، "كيف يا نسيمة؟ أمك التي حرمتيها أن تفرح بك، أن تحضر ولو مرّةً واحدة اجتماع أولياء الأمور والهيئة التدريسيّة، بحجّة أنها مريضة أو مقعدة، ووالدك توفّي وأنت صغيرة. هل هذه السيدة المفرطة بأناقتها، وضوع عطرها الثمين الذي نشرته وهي تسير بكبرياء وتعتلي خشبة المسرح، هي نفسها صديقتي نسيمة التي أحاطت نفسها بغموض طوال سنين الدراسة؟ 
لم أكن أعرف عنها شيئًا رغم أنني صديقتها الوحيدة، سوى أن والدها متوفّى، وأمّها مريضة لا تستطيع الخروج من البيت. 
تلاحقت الصور أمامي، ولم أعد أسمع ما تقوله نسيمة. أراها الآن  تلك الفتاة المثابرة والمتفوّقة، وأسمع مديح المدرسات لها، فترفع رأسها بشموخ، وتوزّع نظراتها علينا مبتسمة، وكأنها تستطلع مشاعرنا، أو بالأحرى غيرتنا، ولا أنكر بأنني كنت أشعر بلسعةٍ من الغيرة رغم حبّي لها. تعجبني مثابرتها وتفوّقها، تعتني بهندامها، كلّ ما فيها جميل ويثير الاعجاب، إلاّ مشاكساتها وثورتها المفاجئة أحيانًا، وبدون سبب.
أصبحت أقرأ كلّ انفعالاتها، فحين أراها تعبث بالندبة التي على خدّها الأيسر؛  أقول مع نفسي، "الله يستر، نسيمة ستثور!"
وثارت يومًا وهي منفعلة
—لماذا إسمي نسيمة وليس نسمة؟
—وماذا به؟ إسمك جميل.
—أكرهه، فهو اسم جدّتي لأبي.
ألححتُ عليها يومًا كي تخبرني شيئا عن أمها، ولماذا لا تحضر الاجتماعات، بكت وصاحت، "لا تستطيع."
دفعني فضولي يومها أن أتلصّص خلفها بعد نهاية الدوام، أردت أن أعرف أين تسكن، أن أرى أمّها، ومن حسن حظّي أن نسيمة لا تلتفت يمينًا أو يسارا، بل تمشي رافعة رأسها، متحدّية. الطريق طويل يفضي إلى حارةٍ متواضعة، بل فقيرة. تركتها تدخل وعدت مسرعةً إلى البيت لأتلقّى توبيخ أمي التي قلقت عليّ.
لا أدري أي شيطان أخذ يوسوس في رأسي، أريد أن أرى أمّ نسيمة. لم أذهب إلى المدرسة في اليوم الثاني، أخذت طريقي إلى بيتها، الباب نصف موارب، تردّدت قليلًا، ثم هتفت بصوت يرتجف، "خالة أم نسيمة"، جاءتني راكضة، ملهوفة، تمسح يديها بطرف (فوطتها) من العجين الملتصق بهما
—آني همسة صديقة نسيمة 
—شبيها نسيمة؟ 
صاحت خائفة
—ما بيها شي، هي بخير، بس أريد أسألك، وأخاف  يضايقك سؤالي. 
وهنا اضطررت أن أكذب كي أبرر مجيئي: مدرّستنا الست غادة، دزّتني حتى أعرف ليش ما تحضرين الاجتماعات المدرسيّة؟
—أدخلي حبيبتي، ولو  بيتنا فقير و….
جالت عيناي في أرجاء الدار الصغيرة، رأيت (تنّورًا) من الطين في ركنٍ من الدار المفتوحة إلى السماء، وحصيرة من سعف النخيل إلى جانبه، عليها أكداس من الخبز، وكأنها استطلعت أفكاري، انبرت قائلةً: چان عدنا بيت زغيرون وحلو، أبو نسيمة تركنا وهرب ويّه جارتنا الأرملة، ونسيمة عمرها سنتين، ما سأل عنّا ولا نعرف مكانه
مسحت دموعها المتساقطة، " أهلي ساعدوني وانتقلنا لهذا البيت، وحتى أربّي بنتي وما أمدّ إيدي لأحد، بديت أبيع الخبز، بس نسيمة…
—شنو بيها نسيمة؟
—تستحي منّي، وتلومني ليش صرت ( خبّازة )
—ولهذا ماتحضرين اجتماع أولياء الأمور والهيئة التدريسية؟
—هي ما توافق، وما أريد أكسر بخاطرها، حتى فد يوم گلتلها، راح أكول آني المربّية مالتچ، بس هي ما تقبل.
وأنا في دوَامة ذكرياتي، انتصبت أمامي صورة ذلك اليوم حين فوجئت بأم نسيمة قادمة إلى المدرسة، هرعت إليها
—وأخيراً إجيتي !
—إي، وافقت نسيمة، بشرط أگول آني  مربّيتها وإجيت بمكان أمها المريضة.
أفقت من كابوس ذكرياتي على ضوع عطر ملأ خياشيمي! رأيتها تتقدّم نحوي كما ظننت، فصحت بفرح، "نسيمة، هذه أنت."
نظرت إليّ بتجاهل، أو هكذا خيّل إليّ، اقتربت منها أكثر، "هل نسيتِ صديقة عمرك يا نسيمة؟"
وكأنها تريد الهرب مني، أنا المتطفّلة.
—آه… نعم… نعم، أنت شذى.
—لا يا نسيمة، أنا همسة، صديقتك الوحيدة في مرحلة الابتدائية والمتوسطة، هل نسيتِ؟
ظهر الامتعاض واضحًا على قسمات وجهها، وفهمتُ… هي لا تريد أن تتذكّر تلك المرحلة من حياتها، والتي بعدها افترقنا حين انتقلت عائلتي إلى منطقة أخرى، ولا اسمها القديم الذي تكرهه!
حاولت أن أواصل الحديث معها، أسألها عن أمها الطيبة بالذات، ولكنها قالت بسرعة، "اعذريني، سآخذ ابنتي فرح إلى الحمام."
وابتعدت مسرعةً، يسبقها ضوع عطرها الثمين.