العالم العمودي

عبدالحميدالقائد || كاتب وقاص بحريني 
 

البحر هادىءٌ، صامتٌ، يخفي بين مائه حكايات الدهر، حكاياتٌ تحفظها النوارس وفيروزات الشواطىء وحتى الرمال وجزيئات الرمال والقواقع التي ترتمي بشكل عشوائي هنا وهناك، وكلها لا تتحدث ولا تنطق على مر التاريخ. ربما ينتظر البحرُ مفاجأة قادمة هذه المرة، أو هكذا كان يبدو من سحنة هدوئه الغريب. حين كان سامر يحدّق فيه ويسرح مع زرقة أمواجه، هاربًا من صخب المدينة التي طعنته طعناتٍ لا يبرأ منها، طعناتٌ أقسى من طعنات الأيام الأولى أو المتوسطة أو ما قبل الأخيرة.   شعر سامر فجأةً أنه في عزلة تشتد مغاليقها يومًا بعد يوم، وخاصة بعد هجمة الكورونا، الجائحة التي هزّت الأرض والسماء بقوة مليون زلزال أو بركان. فقد الناس توازنهم وأصبحوا وحيدين جدًا  أكثر مما كانوا من قبل، ساقطين أو غارقين في اجسادهم، أجسادٌ بلا روح، حزن بلا قلب، ما عادوا يأبهون بالآخرين الذين أصبحوا لا شيء في لحظة، ما عادوا يسألون عن أصحابهم ورفاقهم وأحبابهم، شغلتهم قضية المرض والموت المؤطر بقماش أبيض. الموت القريب الذي يدق أبواب من تنكّر له الحظ ضمن هذه الجائحة الدرامية، وكأنها مسرحية أخرجها ثلة من الناس، ربما، ربما فليس هناك منطق وراء انتشارها أو حتى نشوئها. ما عاد هناك منطق في كل شيء ووراء أي شي!

وهو غارق في سرحانه العميق في تلك المنطقة النائية المقطوعة كلّيا عن العالم، سمع صوتًا من بعيد، كان صوت الموج وهو يتلاطم، أحدهم يسبح بقوة ناثرًا الموج حوله بعنف. كان الصوتُ يقترب يقترب. قادمًا من وسط ظلمة البحر. تفاجأ سامر بل شعر ببعض الخوف أو ربما الرعب.

اقترب السبّاح من الشاطىء، كان شبه عارٍ لا يغطيه سوى سروال أسود اللون مقطّع من أطرافه. فتح سامر عينيه بكامل اتساعهما مبهورًا،  وكان السبّاح يقترب يقترب حتى بلغ رمال الشاطىء ثم توقف رافعًا يديه الى أعلى وكأنه يريد أن يمسك بيديه شيئًا متدلٍ من السماء. كان القمر بكامل استدارته فبدت تتضح  ملامح وجه السبّاح شيئًا فشيئًا، وقف سامر مذعورًا غير مصدّقًا وهو يرتعش من الخوف ...كان القادم من البحر اخوه الكبير الذي غرق منذ حوالي خمس سنوات ..كان شكله مثل جثة حية تمشي، كان مغمض العينين، انفرجت شفتاه عن ابتسامة باهتة ونطق بحروفٍ متباعدة غير مفهومة ثم احمرّ وجه السماء بالوان نارية.   

سقط سامر مغشيًا عليه من هول الصدمة، وحينما استعاد وعيه من حرارة وهج الشمس على وجهه وهو مرتمٍ على رمل الشاطىء وجد ورقة مدسوسة بين أصابعه، حينما فتحها كانت ورقة بيضاء وبدأ يقلّبها يمنة ويسرةً ولم يتمكن من أن يرى غير البياض، ولكنه حين رفعها في اتجاه  الشمس ظهرت على الورقة كلمات قليلة مكتوبة كما كان يبدو بحروف من حبر أشعة الشمس، كلمات غامضة: سنلتقي قريبًا في العالم العمودي ...هناك أجمل .