loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

الدكان الوحيد

breakLine

 

عبد الكريم جماعي/ كاتب تونسي

                
 
لو حدث و عاد الزمان الذي كان..و قادتك قدماك الى ذلك الدكان البسيط..ستجده حتما هناك..فهو لا يغادر مكانه أبدا..فقلما رأيناه ونحن أطفال يروح ويغدو الى منزله القريب..كأنه مقيم هناك..رغم أنّه يقوم باغلاق باب المتجر ليلا..الا أنه لم يحدث أن غاب في اي ساعة من النهار..ولا ندري مواعيد عمله بالتحديد..فكنا في ذلك الزمن البعيد اذا قصدنا حانوت "عم خليفة" وجدناه كما هو بقامته القصيرة وابتسامته الطويلة.. مضطجعا حينا في الركن الداخلي وراء سلعه القليلة..أو جالسا أحيانا قرب كانون الشاي المنعش..مفترشا جلد شاة قديم.. يلبي طلباتنا القليلة بصدر رحب..رغم ما نصدره من ضجيج ومضايقات..لكنه كان سمحا كريما..لا يلتفت الى أيادينا التي تمتد أحيانا لسرقة بعض الحلوى في غفلة منه أو هكذا كان يخيّل إلينا..فهو كان بالتأكيد يرانا فيغض الطرف و يضحك  في سره من شقاوتنا ولا يخبر احدا من أهلنا..و بسبب شخصيته الكتومة  لم نكن نجد حرجا أمامه في التقاط أعقاب السجائر المتناثرة لتقاسم أنفاسها بعد خروجنا من عنده..أو حتى في شراء علبة جديدة اذا توفر عند أحدنا بعض المال القليل..ورغم أن البضائع لم تكن وفيرة لدى "عم خليفة.." الا أننا كنا نشعر بسعادة بالغة كلما سنحت لنا فرصة الذهاب الى ذلك الدكان الوحيد..لاقتناء أي غرض ولو كان تافها..فمجرد دخولنا الى ذلك المحل الذي كان في مخيلتنا أشبه بولوجنا لمغارة علي بابا..يصيبنا بفرحة صبيانية ونحن نتمعن في أكياس متناثرة هنا وهناك وفي قلوبنا رغبة شديدة في تذوق شتى انواعها التي تسيل لعابنا..لكننا نكتفي بالنظر اليها والاستمتاع بها في أحلامنا و خيالاتنا..والمحظوظ من استطاع توفير بعض القروش لشراء حبّة علكة ملوّنة والتي تكون في حجم كجّة صغيرة مدورة أو تلك التي تاخذ شكل السيجارة.. لكن كل السعادة تكمن في الفوز بقطعة بسكويت عجيبة رغم قساوتها الا ان وجود بعض السكر فوقها زادها حلاوة ومتعة..مازال طعمها يرافقنا الى الآن..!!
ولأنه الدكان الوحيد القريب من ديارنا..فلم يكن في حاجة لتركيز  لافتة أو علامة تدل عليه..فكلنا نعرف مكانه بسهولة..لكن ليس باستطاعة عابر السبيل الغريب أن يلحظ وجود متجر في ذلك المكان رغم قربه من الطريق..فحانوت "عم خليفة" لم يكن بناية مشيدة مثل بقية المحلات التجارية..بل كان عبارة عن كهف ترابي حفر على جانب الوادي..ولكي تذهب الى هناك يجب أن تدور من جهة الشرق..وتسير في خندق ضيق..يفضي الى فناء صغير..فتجد أمامك مدخلا واسعا لمعصرة زيت زيتون تقليدية..تفوح منها روائح مختلفة من بقايا عملية العصر أو روث الدابة التي تنام هناك..و اذا نظرت على يمينك ستتفاجىء بكثرة علب القصدير المتناثرة المليئة بالبترول الازرق الخاص بانارة الفوانيس المنزلية..ثم اتجه ببصرك يسارا..فيقابلك باب الدكان المفتوح دائما نهارا..تتقدم خطوات و عندما تصل قدماك الى العتبة عليك أن تنزل درجتين وانت مطاطىء الرأس حتى لا تصطدم  بسقف المدخل الترابي..ثم تقف للحظات حتى تتعود عيناك على الظلام المطبق في ذلك الكهف  و تتمكن من رؤية المكان بوضوح في تلك العتمة..وانظر حينها حواليك حيث تتكدس البضائع المختلفة و الاكياس المتنوعة بغير نظام او تناسق..فلا توجد مرافع هناك كالتي تجدها عادة في المغازات والدكاكين الكبيرة..لكن مجرد سلع وضعت كما اتفق..فهنا في الركن الأيمن صناديق بلاستيكية بها قوارير المشروبات الغازية..بجانبها أكياس وضعت على الأرض باحجام متفاوتة تحوي البقول من عدس وفول و حمص..و هناك في الجهة المقابلة.. تجد السكر والدقيق وغيرها..ثم ترفع بصرك فترى صاحب الدكان في مكانه المعهود ..جالسا يطبخ الشاي وحوله تناثرت اكياس صغيرة الحجم ملأت حلوى وعلى يساره ميزان حديدي قديم  ذو الكفتين..ووراءه درج محفور في الجدار به كل انواع السجائر الرخيصة والكبريت..وعلبة كبيرة بها تبغ مسحوق..تضوع منها كلما فتحت رائحة قوية تزكم الأنوف..!