loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

التقاضي والرهن

breakLine

رند قنب/ كاتبة سورية


أملك دائمًا في ذهني أفكارًا جنونية وأحداثًا تجعلني بطلة في مدينة فرويد الفاضلة، فأخلقها لي وحدي بقوانين خاصة وأفكارٍ جديدة، أبيح بها وأتلذذ في كل ما هو ممنوع. 
الممنوع أكثر من المرغوب حسب أقوال أبو عمر التي استنتجها بعد لقاءات عدّة، فأنا أرهن روحي بحانوته كل اليوم  وهو يرهن نفسه بسبيل ألا يبقى وحيدًا.
أبو عمر رجلٌ عجوز يسكن حانوته الذي يضم القطع قديمة المغبرة.
دخلت اليوم إلى محله بعد مرور ستة أشهر على رهن روحي ومشاعري لديه.
كان التكامل زائرًا لطيفًا بيننا، فأنا أريد أن أرهن روحي وهو يريد الونس والبكاء على أشياء لم يبكِ عليها خلال سنواته الأزلية.
اقتربت صوب الباب الموارب، حاولت فتحه، وبعد جهد جهيد دخلت مقتحمةً مكاني.
كعادته، يجلس على كرسيه الأسود المهترئ، يغفو في نومٍ عميق، أعمق من أنين سنّه.
تقدمت تسللًا متجهةً نحوه، و أيقظته برائحة البرك التي يحبها. كان كل ما في الحانوت يستحيل إلى قبرٍ اسمنتي.
استيقظ محملقًا في ملامحي الشحوبة، محاولًا أن يقتفي آثار وجهي ويحللها بنظراته.
عيناه الزرقاوتان لامعة، وأنفه أفطس كشجرة جوز عتيقة.
كان يقول دائمًا:  أشمُّ رائحة الحزن، أراه في الوجوه، وهذا يكفي.
أردد جملته داخلي، وأشمُّ رائحة الحزن وهو يختلج في الصدر.
حزنٌ قرر أن يبقى في الصدر ساكنًا دون أن يحدث ضجة.
- هل تعلمني بأنَّ الحزن يشبه قصب السكر عندما تصدح رائحته يصبح خانقًا للصدر؟!
أومأ: كلا.
أستطرد وأقول: كم من وقت مضى على آخر رهن؟!
نظر بتمعنٍّ في عينيّ وأجاب: منذ آخر مرةٍ التقينا، لم يأتِ أحد، من سيبقى مع عجوزٍ طاعنٍ في السن، أبله، مقابل رهنٍ للمشاعر، وبسبيلِ التحدّث مقابل أشياء لا قيمة لها الآن. 
واستطردت مجدداً بينما أمدُّ الحصير على الأرض، شردتُ في عباراته الحزينة، لأقول: هذا هو قبرنا المضيء.. لنتحدث ساعتين معًا.
كان ضاحك القلب، بشوش الوجه لمجرد شعوره بوجود إنسان معه.
بدأ يتحدّث عن مغامراته العاطفية، وكيف خدم البلاد، وأفنى عمره في سبيل أخطاء مجازية.
أجبته مصوّبةً نظري إلى الأرض، محاولةً رتق بنطاله: وماهي الأخطاء المجازية؟!
- سأشرحها لك، ناوليني العلبة الفضية.
نفذت أمره على الفور، وأكمل: الأخطاء المجازية تشبه مج الدخان، أو لنقل، كالحب، فأنا أريد اليوم أن آخذ مشاعركِ واستحوذ عليها بنفسي مقابل هذا الدخان العتيق.
ضاحكاً: لأنني أريد أن أموت باكيًا.
أخرج سيجارة تفحصها بعين القلب،جسَّ نبضها، وضعها بين شفتيه المتدليتين.
أخذ يقبّلها بإتقان محدثًا دوائر رمادية محترقة، ثمَّ أشار بإصبعه: تلك هي الأخطاء المجازية.
الحب، الهجران، عبادة أشخاص فارغين، وأخيرًا المبادئ!
أجبته ودموعي طاحت من محجر عيني: هل الهجران مَجازًا؟
استطرد وهو يناولني سيجارة عتيقة، حاولت التقطها وأنا أختلج. 
فقال: خذي نفسًا عميقًا وأطلقي الدخان بقوة، استمتعي باحتراق اللفافة. 
زفرت بقوة وخديَّ مبللين بدموع منيرة، ثمَّ اهتزت حبالي الصوتية: قبرنا هو مجاز كتلك الزفرات!
ما الفائدة عندما يهجرنا الآخرون؟
قليل من الدموع والضياع؟ لِمَ؟ تحت مسمى القداسة والهيام.
أرتميتُ في أحضانه وصرخت بأني أحبه! وبأني لم أكن سوى خطأ مجازي بشعارات فارغة.  
كنت أريده أن يتحسس وجودي، أن يرى ما أبرمه من حب وزهاء.
استطرد مجازي بتشبيه ركيك وهو يداعب خصلات شعري: كما تمصُّ ألواح الطاقة الشمسية الأشعة عند الغروب، فيعطيها وهجًا استثنائيًا وبريقًا ضائعًا.
أجبته: أصبت أنه الوهج الذي أبحث عنه منذ سنوات.
واقترحت عليه بصدد المحادثة أن يعلق منشورًا جديدًا بأنه سيفتح الحانوت لرهن المشاعر  الناس!
فقال ضاحكًا: تريدين أن أموت مشلولًا باكيًا؟!
قلت له خارجةً صوب الباب: أنا أؤمن بلذة الأخطاء المجازية.. وبك.