loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

أنثى الرمل

breakLine

 

 

 

 

جعفر رابح | شاعر وكاتب جزائري

 

في كلمة بجملة على سطر يشرع الفرح أجنحته عبر نافذة، كان أول اللقاء وأولى زخات مطر تنزل لتغسل أتربة تراكمت على حواف الطرق المؤدية الى قلبي..
على شظايا المرايا المنكسرة كنتُ أبحث عن وجهي الذي شوّهت ملامحه الأزمنة العابرة،
وحين جمعتُ آخر قطعة من زجاج الانعكاس كان وجهكِ يقابلني كلما وقفتُ أتأملوني باحثا عن ظل لرؤى تطارد سباتي العميق، تدمرني الأسئلة، تعصف بمخيلتي الوجوه العابرة كطيف غمامة صيف تحجب لفح شمس تصهر جسدا لبقايا رجل يشعر بالأفول..
بلا وجه، بلا ملامح، بلا غد أرسم تفاصيله، وتلونين بالأمل صور الأمس وتهمسين 
-دعه يحدث.. 
فتحيلني نقاط تصطف على خط الأفق الى مزيد من الاستفهامات، تشكلك أنثى من رمل صهرتها حرارة الأفران العالية لتحيلها كيمياء الروح إلى وجهي الذي جمعتُه من بقايا المريا المنكسرة..
أهربك من حكايا شهرزاد، من عتمة السراديب المبنية في متاهة أقبية المدينة..
في دخان سجائري ترقصين على شفاه عطشى لأن تعرف، من أي العوالم أنت ؟ أي جغرافيا كانت تخبؤك، وأي تاريخ كان يختزن موسيقى حروف تخترق قلبي وقلبك؟
أين كنتِ طيلة ما مضى من زمن الساعات الرملية التي تعد الزمن من فتحة صغيرة جدا كلما قلبناها بدأت التعداد بلا ارقام و لا عقارب تتقاطع في نقطة المنتصف لتشكل في ليل الغرباء نقطة صفرهم وسفرهم في عوالم المنفى..
رنة على شاشة البلور توقف أحرفي فأقرأ من أول السطر...
-في صقيع الشتاء كنت أفتش عنكَ في وجوه العابرين و حكايا عجائز الحي و تراتيل شيوخ الزوايا مع آخر الغروب، كنت أرسم وجهكَ كأطفال العيد بعيونهم السعيدة وقهقهاتهم البريئة وهي ترتفع مع انفجار بالوناتهم الملونة، وحين لا تأتي بكَ نسيمات فجري الطويل أغني للريح أنشودة طفلة تترجى هبّة لتسقط من شجرة القدر ثمارك البعيدة..
ضوء البلور يثير شهية لمس أحرف تكتبنب اليك..
-ها أنت تملئين عالمي، تزينين سمائي ببريق كواكب ماتت من سنين ضوئية في الفضاء البعيد ويبقى عمر نورها يمتد حيا لألاف السنين..
تراني أرقى إليك؟ تراني ألامس ما تدلى من أفقك البعيد، وأدنو من تلابيب الأماني وأعرج إلى عليائك؟
تنكسف شاشة البلور في يدي، أصاب بذهول و رعب، أرمي الهاتف الغبي الذي تشنّجه حرارة تصهر سطحه فيفقد من تبقى فيه من شحن و ذاكرة..
في حركة مجنونة أو غبية أفتش عن أوراق مبعثرة على سطح مكتبي وقلم ضلّ مرميا على الأرض يسكنه اليتم وتسكنه اللهفة لتنزلق كرة صغيرة من نحاس على رأسه تمرّغ أنفها على حبر في جوفه لتدلقه أحرفا بحضن وريقات ملوّنة بألوان حلواي المفضلة، فألقي مرساة الشغف و أدنو من مرافئ الاعتراف الأخير...
-لن أتراجع عن تشكيلك و ترك هذا الزلزال العظيم الذي يرجُّ حواسي يحدث، كالمعتوه رحت اردد كلمات يكرر الفراغ صداها
"سأبهرك، سأبهرك"
من أول اهتزاز في جدار الروح تركته يحدث بلا سؤال، بلا تردد، بلا خجل بلا منطق تركته يحدث، كصعقة كهرباء بالصدر من طبيب انعاش يترجى فيا الحياة بنفس الوقت الذي أسمع كل الأفواه حولي تتمتم "لا تتعب نفسك يا دكتور، لن يفيق.." لكنه يصرُّ على زيادة التوتر ورفع شدة تيار الصعقة، فأشعر أنه يحدث بصدري كما لم يحدث من قبل ولن يحدث من بعد..
أحبّكِ والدك دونا عن بناته الخمس لأنكِ ذكية، مشاغبة وثائرة، وها أنا من النبض الأول أحبك بكل ما فيك، بكل تناقضاتك وكل عفوية الطفلة التي تأبى أن تكبر داخلك..
تدهشني استفهاماتك التي تقطع حبل جمل تمتد اليك، دون مقدمات و لا استئذان..
-هل أشبه الوجوه الجميلة التي تطويها في تلافيف ذاكرتك؟
- لو كنتِ نسخة ممن عرفت من نساء قبلك لتخليّت عنك بأول فاصلة على سطر حوارنا، لكنك أزحت ضباب الصباحات القديمة وانفجرت كما حلمت دوما، مختلفة مبهرة، قوية، عنيدة ومجنونة لا يكسر وقارك غير الصدق و لا تنطق صمتك غير الحقيقة، كالثائرات في زمن الخضوع، كالعابرات للخوف، كحوريات البحر في قصص السندباد..
من أول رنة يصدرها ذلك الاحمق المتصل بالشاحن الآن يلتقط من ثقب بالجدار طاقة تعيد إليه الحياة، من أول سطر بعد  فواصلك العديدة ويد زرقاء بلهاء يرتفع ابهامها ونقاط كنت أتركها على ضوء ابيض وضعت قواعد ترسمك بكل الدهشة..
-كانت تقربني منكَ أكثر، وتزيح وجه التردد  الذي يقف بيني وبين التبعثر في جنونك..
لا أهتم لهاءات جاءت متأخرة وأعيد أنف القلم لأحشره بين بياض الورق و زرقة الحبر..
-لو رفضتك قواعدي، كنت سأحتمل غباؤك و أنا أرتدي قناعا مؤقتا، وصدرية واقية لصدمة الرحيل المفاجئ.. كنت ساعيشك دورا مؤقتا في مشهد قصير ما إن ينتهي حتى أنهيك و أنتهي.
الهاءات المتمددة حتى نهايات السطر تسمعني صحكتك، وكلمة منك تكسر صمتي 
-مجنووون 
مجنون؟ مجنون لأني أحب النار حتى وهي تحرق أصابع الفضول، تقلّب صفحات عمرك في لهفة..
-أخشى أن تضيعكَ مني الأحجيات القديمة وأسقط من فضاء الفرح الذي حملني إليه وجودك.
تنهيدة من أعماقكِ تدفعني لأن أمسك بمعصم الحرف المتدلي من شفاه التردد والخوف على وجهك..
-أحب ان أضع صبري في اختبارات قاسية، فمن لا يصبر على شوك الورد لا يستحق شذاه، أحب أن أمتحن جنوني، فالحياة جنون، والحرية جنون، والنجاح جنون، وما العقل إلا سجن مهترئ الجدران، العقل غرف مظلمة، رطوبتها تصيب الروح بالتعفن والقلوب بالشيخوخة المبكرة...
-أحب أن أقفز فوق أسلاك المنطق الصدئة وأتمدد على فراش اللا معقول وأعيش بعيدا عن دنيا الحمقى والمنكمشين في أثواب القديسين والمتطهرين بماء الخيبة..
روح جدي المتصوف الدرويش تطهرني كلما ضعفت أو ركنت للعالمهم فتتلبسني في جملة أو رسالة أتركها لك في غيابك..
نقاطك على السطر تشبه مسبحة قديمة حباتها الخضراء التي فقدت بريقها تحثني على مواصلة ثرثرة الصمت وتفجر الحرف على وجه هذا الامرد المستسلم لحواف الجمل..
-ها أنتِ تحرريني من كل الوجوه التي تخنق أنفاسي، لبستها مرغما لأداري ملامح الاخفاق و أوجاع الفشل، ها أنت تشكلين حقيقتي بعيدا عما أرسمه للآخرين..
-أنتِ سري الذي أخبؤه بصدري كي أبقيه حيا، سري كنز مدفون تحرسه شرايين القلب وترويه هيولا الدم، سري جواهر تحت الردم إن بحت بمكانها تحولت الى فحم الندم ورماد الخذلان..
-في كل جملة و كل حركة حرف أقترب أكثر من حقيقتكَ واكتشف مدة تمازج روحينا فتجعلني أتحرر من كل القيود التي توثقني إلى ثلاجات الموتى وأنين المطعونات في دهاليز الصمت..
ثم ترسلين كثير العصي المنتصبة وهاء واحدة تتكور في خجل آخرها فأسمعها آااااه يصهر جوفك..
فأسرع لملمة ما تبقى من سنابل يابسة خلّفها الحصاد الأخير، وأنفخ برفق في رماد تركته آخر الحرائق يغطي جمر المحبة داخلك وأهمس حتى تلامس أنفاسي مسامات السمع لتعيد الشعلة المغمورة تحت كتل الحطام فتتقد جذوتها من جديد.
-تحررت روحك وتطهر جسدك لأنك نقية المشاعر عصية الانهيار، ولأنك تتشكلين بعد كل خيبة وكل لحظة ضياع، كأنثى من رمل كلما بعثرها ريح تتجمع من جديد و بشكل أحلى ومكان أجمل تمسح على حزنها الشمس وتتعرق عطرا من جبين الانبعاث المتقد بالحياة 
-غيرك من العابرات بمدن جوعي ومعابر دهشتي إناث من صخر على شواطئ الملح، رغوة الموج تترك بهن ندوبا عميقة و نتوءات مدببة توخز من يأتي بعد الموج فتدمي أقدامه الحافية، إنهن من صخر كلسي في كهوف الموت تشكّل بفعل الرواسب..
-أنت أنثى الرمل لا يدركها إلا رجل الريح لأنه يعرف متى وكيف وأين يتوقف و متى يجدد رجلة الرقص و العزف من جديد..
-أنثى الرمل لا تتراكم عليها أوحال، ولا يغمرها طمي ولا تغير لونها حرارة..
ترتفع دبدبات صوتي لترسم موجة من الصراخ تتدافع على خلجان الشهيق المفجر لبركان من الحمم المتطايرة في سماء الارتقاء اليك 
-أنثى الرمل هي سيدة أحلامي المؤجلة ووحدي من يستحق وجهها بلا مساحيق و لا أقلام ألوان غبية، و للحمقى السراب، للحمقى خيال نبوءاتهم السادجة، للحمقى لحظة كادبة تجعلهم يتبولون كصبية على جدوعهم الميتة..
-أنثى الرمل لا يخيفها نباح الكلاب أو عواء ذئاب جائعة تتربص عند كل نزيف تجذبها رائحة الدم المنسكب من جراحات الانهيار بقدر ما تعطف لجرو يتمسك بطرف ثوبها كلما ركلته ازداد أنينا والتصاقا بها..
-أنثى الرمل لا تزعجها غربان تنعق و لا قطط جرباء تموء، أنثى الرمل لا تخرج كنزها إلا لمن حفر بأقصى العمق دون خيبة من جفاف البدايات...