loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

أنا في جوفها يا صحبتي!

breakLine

 


سلام إبراهيم | قاص وروائي عراقي

 


(استيقظ «إبراهيم».. فوجد نفسه عاريًا على فراش وثير وإلى جانبه امرأة عارية تماما تغط في غفوة عميقة.. فرك عينيه ودوّرهما في أرجاء غرفة النوم الصغيرة.. لم يستوعب ما هو فيه، كأنه في باطن حلم، فالمكان لا يعرفه، السرير ليس سريره، رائحة الغرفة وستائر النافذة لم يشمها من قبل.. والمرأة المغطاة بغطاء خفيف والمتكورة مثل جنين ، لا يعرفها.. أطبق أجفانه مرخيا قفا رأسه إلى مسند السرير. حاول أول الأمر معرفة أين هو الآن، في أي بقعة من العالم؟.. لكنه كان في تشوش ذهني تام.. لعن الخمرة.. ذلك يحدث له كلما شرب أكثر من قدرته.. فتح عينيه ببطء.. بدت الأشياء حوله أكثر وضوحًا في النور الأزرق الخفيف، الذي لا يعرف مصدره، والنور الباهت المتسرب من حافتي ستارة النافذة الجانبيتين.
لصق السرير من جهتها، منضدة بعلو السرير عليها مسند صغير، يسند إطار صورة شاب يرتدي بزة عسكرية، يحدق نحو «إبراهيم» بعينين قويتين. على الجدار المقابل للسرير، وفي متوسط المسافة بين حافته والفتحة المسدلة بقصب ملون، يطل نفس الشاب بزي مدني على السرير وأشياء الغرفة والمرأة وإبراهيم العاريين محملقًا بعينين واسعتين وبسمة خفيفة على طرفهما وطرف شفتيه.. 
نزل من السرير بحذر شديد.. وجد ملابسه متناثرة، ومختلطة بملابسها على البساط المغطي أرض الغرفة.. فرز ملابسه ولبسها متحاشيًا إثارة أي ضجيج يوقظ النائمة.. أنصت مرتبكا لحفيف البنطلون، عند احتكاكه ببشرة ساقيه، فذكره بذلك الحفيف الخفيف في ليل الجبل، في قاعة بقاعدة للثوار، في باحة مسجد جامع في قرى كردستان النائية، عندما كان يرتدي معطفه ويتسلل إلى نقطة الحراسة وقت نوبته.
الخشية نفسها ، لكن إلى أين أريد الآن؟!. تساءل مقتربًا من النافذة يحمل قدميه الحافيتين خطوة.. خطوة مثل لصٍ محترفٍ حتى بلغ حافتها.. أزاح الستارة قليلًا.. استلقت تحته المدينة واسعة مغسولة بضوء الفجر الشاحب وبدا من بعيد نهرها يتلوى مخترقًا جسدها من أعلاه إلى أسفله. وخلف المدينة في البعيد، امتدت سهوب شاسعة حتى الأفق.. مدّ رأسه قليلا ونظر نحو الأسفل؛ فرأى في البعيد على الأرض حدائق مفتوحة وملاهي أطفال.  
- كأنني معلق بالسماء.              
هتف مع نفسه، والتفت نحوها.. لم تزل متكورة ساكنة على وضعها نفسه.. فرك عينيه احتوى رأسه براحتيه.. لبث دقيقة يحاول فقط معرفة كيفية وصوله إلى هذه الشقة وما هذه المدينة الواسعة.. دون جدوى.. كأن كل ما مضى مُسِحَ.. إذ وجد باب الأمس مقفولًا. 
- أنا في حلم ٍ إذن!.
لم يبق لديه غير هذا التفسير، فطالما حلم بأمكنة مجهولة يجد نفسه ضائعا فيها..  منذ طفولته وصباه حتى أنه ظل يتذكر تلك الأحلام وكأنه زار أمكنتها حقًّا، وكان يروي لمن حوله عن ذلك. 
- من المؤكد أنني سأصحو بعد حين!.
قال ذلك، وتلمس جسده متحققًا.
- لا.. هذا ليس حلمًا!.
أحس بالشاخص من الجدار يلاحق خطوه.. أراد أن يختلي بنفسه؛ علّه يتذكر ما أدى به إلى هنا؛ ففكر الخروج من خلال باب مفتوح مغطى بالقصب الملون المتدلي إلى صالة، تبدو من خلال ثغرات الشرائط كبيرةً.. مشى صوبها.. عَبَرَ القائم في الحائط متحاشيًا النظر إلى عينيه القويتين.. توقف جوار الفتحة المستطيلة.
مدَّ ذراعه وأزاح صف القصب المتدلي فأصدر صوتًا.. ولج منه ولم يحرر حزمة القصب مرة واحدة، بل أفلت ضفائرها واحدة.. واحدة فطقطقت مهتزةً.. سكن جوارها منصتًا.. لم يصدر من جهة السرير أي صوت.. شمل الصالة بنظرة.. وجدها واسعة في وسطها أريكتان، تشكلان زاوية قائمة، الجالس عليهما يقابل التلفاز الموضوع على منضدة  بمستوى النظر.. قطع المسافة بخطوات حذرة وهبط دون صوت على الأريكة الجلدية.
من وسط الجدار المقابل لجلسته أطل عليه نفس الشاب.. لكن بملابس صيفية وعينين مرحتين في صورة التُقطت تحت شمس ظهيرة.. انتقل فورا إلى الأريكة المجاورة، فأصبح بمواجهة الباب الخارجي، وبالقرب منه رأى حذاءه الرياضي مقلوبًا فردة قربها والأخرى على بعد مترين، فقدر أنه نزعهما على عجل وبصخب عند دخوله.
- لكن متى كان ذلك؟!.
همس مع نفسه.. هذه أول مرة يصل إلى هذه الحالة.. يجد نفسه لا يتذكر شيئا، وهو ليس في حلمٍ، بل في صحوٍ يجلس على أريكة صالة مرتبة يتسلل من نافذتها العريضة ضوء الفجر.. وهناك خلف باب القصب امرأة عارية، مازالت رائحة جسدها عالقة به يشمها مع كل نفسٍ. وبغتة لمع كل شيء.. فتذكر «صالح» والبار والرقص، والنساء اللواتي تجمَّعن حول طاولتهما، لكن عند نقطة ما من جلسة الأمس يضيع كل شيء:
- إذن أنا في شقة واحدة من أولئك النساء!.. هذا ما لاشك فيه. لكن أين «صالح»؟!. وكيف سأعود إلى المدينة الجامعية.. وأنا لا أعرف طريق العودة؟!. كيف سأتفاهم معها عندما تستيقظ؟!.. كيف أجعلها تفهم وضعي؟!. وأنا لا أعرف من الروسية إلا صباح الخير، كيف حالك، مفردات متفرقة!.
شاردًا، مهموما، حائرًا على الأريكة.. دلف به الهم إلى ماضيه الدامي العنيف، فتذكر زوجته التي يحبها بشدة، وطفليه اللذين تحولا إلى خاطر، يخطف في مثل هذه الحالات، حينما يجد نفسه غارقًا في أسئلة لا جواب لها.. أحس بوحشة من سقط في بئرٍ عميقة مهجورة في مكان ناءٍ غير مسكون. 
- ماذا دهاك يا هذا؟!.
نبَّ من داخله صوت، هو مزيج من صوت «شيركو» الكردي و«أسعد» التكريتي وصوته القديم، قبل أن يحب المرأة التي تزوجها؛ ظانًا أنه وقع في الفردوس.. صوت قوي يبعث في النفس الحيوية، ويسري في الدم منشطًا كل الحواس.
- ألقِِ عنك الوجوم والحيرة.. فما العمر إلا لحظة مارقة.. أنت فيها الآن تجلس على أريكة في شقة مجهولة.. أليس هذا ما كان مناك أم نسيت؟!. كم رغبت في صباك ومراهقتك الهرب من العائلة، مدينتك، المدرسة.. كم مرة؟!.. هأ أنت حقا في مدينة غريبة.. مع امرأة غريبة لا تفهم لغتها، تعود بك إلى طفولة الإنسان.. حيث ستتعامل معها بالإشارة فماذا تريد بعدُ أبلغَ من هذا العمق، الذي وضعتك فيه الصدف..
القدر رحمك فحياتك العنيفة الصلبة الجافة التي قضيتها بين المعتقل والخوف وجبهات القتال، سواء كجندي أو ثائر تجد خضرتها هنا في زوايا روسيا، التي أحببتها كل عمرك. من أشعار بوشكين، وروايات «ديستويفسكي» و«تولستوي» وقصص «تشيخوف».. وكتابات «تروتسكي» و«لينين».. و«بلخانوف» وكتبهم التي كنت تقرؤها بشغف.. ولاحقًا قصص الأنصار في الحرب العالمية الثانية عن تضحيات أولئك البشر المنسيين، ثم «حمزاتوف» و«إتمياتوف».. و«بولغاكوف» صاحب المعلم و«مارغيتا»، التي أذهلتك حينما قرأتها قبل شهرين في شقة موسكو.. أنك من هذا المنظور أسعد إنسان.. فمفهوم السعادة نسبي.. وبالنسبة لك أنت في القمة «وشاكر ميم» المصور الزنجي وضعك في رحم الفقاعة، فلا تبتئس يا صاحبي، وكن جديرا بهذا الجوف الدافئ الخاطف الممتع!.
أنعشه الصوت، فرفع رأسه متمليًا أشياء الشقة الغريبة بعيون مختلفة.. هدأ تمامًا فتمدد على الأريكة واضعا رأسه على مسندها وركّز على نقطة في السقف أدكن لونًا من الطلاء التبني. 
- سيموت «عزيز» من الغيظ لو عَلِمَ بهذه القصة!.
وتبسّم منتشيًا بخيال اللحظة التي سوف يحكي له عما جرى. 
- لكن من قال لك إنك سوف ترى «عزيز» مرة أخرى؟!.
نبَّ صوت آخر داخله، جعله ينتصب بجذعه الأعلى ساقطًا في قلقٍ مباغت لم يستمر طويلا؛ إذ انتبه إلى صوت خطى يأتي من غرفة النوم، ثم أنامل ناعمة تزيح شرائط القصب المتدلي، ومن وسط خشخشة شرائط القصب ظهرت مرتدية ثوب نوم أحمر شفافًا، وقالت باسمة:
- دِو بروي ئوترا.
يعني صباح الخير.. رد بالمثل بصوت مرتبك.. قالت شيئًا واستدارت نحو مدخل، يستطيع من خلاله أن يلمح بابا مفتوحا على المطبخ، لكنها لم تدخله، بل سمع صرير باب آخر يفتح في الممر نفسه ، وما لبث أن تعالي صوت دش الماء.. تأمل صوتها ذا الرنين الخفيف، شديد النعومة وقسماتها المتسقة ناعمة التقاطيع، وجسدها المتين الذي يبدو شديد الإثارة بضخامة كتلته الممتلئة المتناسقة، في تناقض محير مع الوجه البريء. أنصت لوشيش الماء متخيلًا جسدها عاريًا مغمورًا بالصابون، وراحتيها منهمكتين في المرور في مناحيه.. لبث يتخيل ذلك مستثارًا وكأنه لم يكن معها في الفراش عاريا طوال ليل البارحة.. تمنى لو تقدم عند خروجها من الحمام على مضاجعته من جديد، فهو لا يتذكر هل تضاجعا ليل البارحة أم لا؟!. تمدد من جديد حالمًا.. وتشاغل في محاولة لتقدير عمرها.. خمن واضعا أرقامًا ينقضها بعد إمعانٍ في شكلها وطراوة بشرتها، فيقدرها تارة بالخامسة والعشرين، وتارة بالثلاثين.. وفيما هو في غبطة السارح، وجد نفسه يصرخ شاكرًا «شاكر ميم» صاحب الفقاعة بصوت علا على صوت الدش.