loader
MaskImg

حوارات

حياة من ينابيع الشمس.. "حوار متخيّل مع عبد الوهاب البياتي"

breakLine

 

 

*حاوره ماجد موجد

هل ينبغي تعريف البياتي؟ بطبيعة الحال سيغدو ذلك التعريف فضلة لا قيمة لها.. لأن ما أحدثه البياتي من تأثير كبير وبالغ، لا في الشعرية العربية فحسب، بل في الحاضن الثقافي العربي بشكل عام، جعله في مرتبة عالية من الوضوح المشع في ذاكرة الثقافة والمثقفين، شأنه في ذلك شأن الشمس التي يكفيك لتعريفها ذكر اسمها. هو وصف قالته نرجسية البياتي الكبيرة في مذكراته التي أسماها (ينابيع الشمس) لكن كان لابد من وضع تلك العلامات التي تدل من يريد الإعادة لاكتشاف شاعر الرؤيا المجيد.
في ذكرى وفاته السابعة أردت استذكار البياتي بطريقة مغايرة مثلما كان شأنه مغايراً في الشعر والحياة وحصيلة الفكرة هي إقامة حوار متخيّل معه، حوار ممتاح من سيرته الشعرية والإنسانية العميقة المعنونة (ينابيع الشمس) والتي صدرت في عمان العام 1999 وهي نفس السنة التي توفي فيها، لقد وجدت في تلك السيرة فقرات مطولة تحمل في نسقها أجوبة عن أسئلة ضمنية مغيَّبة ربما كان يطرحها الشاعر على نفسه ويجيب عنها بعبارات ما انفكت تتفكر وتتأمل هناك في الطفولة في الشعر في الغربة في الوطن في الحب والعقيدة وطقوسهما. ولم يكن لديَّ من جهد في هذا الحوار سوى أنني تكهنت بنوع تلك الأسئلة التي تفيد ما أجاب عنه البياتي في ينابيعه..

* نبدأ من سؤال بديهي لا مفر منه عندما يكون الحوار مع شاعر ولا سيما شاعر مجيد مثل البياتي، وهو ما يتعلق بالطفولة، تلك الواحة التي ما انفكت تحافظ على اخضرارها وضوئها ما طالت السنوات، فمن هو البياتي طفلا؟
= إنَّ الطفل الذي كنته أنا، انحدر من أعماق قرية فقيرة حكم عليها بالصمت منذ آلاف السنين، كان يحمل مدينة الشاعر الذي كاد يزول عنها الشتاء، على الرغم من شمس الشرق الساطعة معه، بعيدا عن أعين الفضوليين والأدعياء، فالحياة التي عاشها هذا الطفل كانت أشبه بالموت نفسه، أو بأطلال دارسة مهجورة، ولكنها بلا أساطير، كنا نعاني الموت ونتنفسه.لقد بدأت معرفتي بالعالم في الحي الذي نشأت فيه ببغداد بالقرب من مسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني وضريحه، وهو أحد كبار المتصوفة، كان الحي يعج بالفقراء والمجذوبين والباعة والعمال والمهاجرين من الريف والبرجوازيين الصغار، كانت هذه المعرفة هي مصدر ألمي الكبير.

* لماذا تشبِّه حياتك وأنت طفل بالموت؟ ما المشاهد التي دعتك إلى أن تغرز مفردة الموت في جمل تتحدث عن البراءة والدهشة والجمال واللهو؟

= كان منظر الموت هو المنظر المألوف لديَّ، فالأبقار والجواميس والأغنام كانت تقاد إلى المسلخ، حيث تقدم هدايا ونذوراً إلى مقام الجيلاني، وتعد منها الأطعمة التي ينتظرها الجوعى والمساكين وبعض الزوار الذين قدموا للطواف في ضريح الشيخ، كانت بغداد تعج بصور البؤس الإنساني الذي لازم المجتمعات الفقيرة منذ نشوء الحياة على هذه الأرض، وقد كنت أحس وأنا أتصفح وجه الألم، أنه لم يكن وجهاً للألم في الزمن الذي كنت أعيش فيه، بل إنه كان وجهاً للألم في كل العصور (...) على الرغم من هذا البؤس المقيم في طفولتي، فأنني كنت أمارس هواياتي طفلاً، وشاباً في مقتبل العمر، لكنني كنت أختار عالم سعادتي اختيارا، أي أنني لم أقع في التقليد أو المجانية، كنت أشعر أنني بحاجة إلى زاد روحي ومادي لكي يصلب عودي، وأستطيع بدء رحلتي الطويلة، فكان الفضل الكبير في الافادة من القوى الروحية، يعود إلى جدي، الذي كان رجل دين وإماماً، كنت أتبعه - أحيانا - وهو يذهب إلى المسجد، وأمشي وراءه وأزن خطواتي بخطواته(....) كما كنت أساعده عندما يعتني بالبستان الصغير الملحق بالجامع، وعندما كل بصره ترك لي هذه المهمة، فأحسست بسعادة غامرة، وكنت أجلس بجانبه عند القائه دروس الوعظ للآخرين أو لنفسه، وأستمع اليه، وأكثر ما يعجبني 
ويثير استغرابي وفرحي الغامض هو أبيات الشعر التي تتخلل بعض الأحاديث، وكان معظمها ـ اكتشفت ذلك فيما بعد ـ لابن عربي وعمر بن الفارض والحلاج والشبلي، وقد حفظت مباشرة بعض ما كان يلقيه.
وعندما تعديت مرحلة الطفولة (...) راح أبي يصحبني معه إلى المقهى وإلى السينما لرؤية بعض الأفلام المهمة التي كان الناس يتحدثون عن جودتها، كما أنه كان يترك لي حرية شراء المجلات والكتب التي أريد شراءها ولا يستقطع ثمنها من مصروفي اليومي (...) لقد كان أبي عكس جدي تماماً، أي كان منصرفاً إلى أمور الدنيا، وكان يعيش الحياة بعمق (...) كنت أحس بأبي وجدي وكأنهما حلقتان تكمل إحداهما الأخرى، ولهذا لم أكن متأثراً بمجرى حياة جدي أو أبي (.....).

* لقد قلت أنك لم تمارس هواياتك ضمن التقليد والمجانية، وهي إشارة إلى المغايرة شعرياً، من أين بدأت هذه المغايرة -أقصد شعرياً- أو من أين بدأت ثقافة البياتي على وجه العموم؟

= كانت قراءاتي الأولى للتراث ـ الشعر العربي الجاهلي والإسلامي وبخاصة شعر المتصوفة وكتاب (الأغاني) و(ألف ليلة وليلة) ـ قراءة من أجل المتعة أو البحث عن شيء ضائع أحسه ولا أعيه، لذا كانت تلك القراءات عجلى ومحمومة، ولكن معارفي التي نمت باتساع دائرة الثقافة العربية، وبمرور السنوات، كانت تجعلني أعود من سنة إلى أخرى إلى قراءة هذه الكتب، فاكتشفت فيها أشياء جديدة، وما أزال أواصل قراءة هذه الكتب واكتشف بعد هذه السنوات الطوال أشياء جديدة. ولم تقتصر قراءتي على كتب الأدب، بل كانت مطالعاتي في ألوان المعرفة الإنسانية من فلسفة وتاريخ وبحث ودراسة، إلى جانب الأعمال الإبداعية، الغريب أنني لم يستهوني الشعر الرومانسي على الرغم من أن شعراء عالميين كباراً، أولئك الذين قرأت لهم، فظهر عدم ميلي إلى الرومانسية المفرطة، مدرسة واتجاهاً، ولكنني كنت أتفق مع الرومانسية بمعناها الصوفي العميق، عندما تكون شجناً يغلف الأشياء كما يغلف الضباب النهر. وهذا ما وجدته في شعر باسترناك وآنا اخمانوف، ويسنين إلى حد ما، ولم أكن منطوياً تحت جناح مدرسة شعرية معينة بل كنت أميل إلى أن أكون مستقل الشخصية وأفيد من جميع المدارس الشعرية وإنجازاتها، من دون الوقوع في تقليد إحداها وكان هذا مبدئي منذ البداية (.....) على هدي هذا النظام أو الخطة غير المبرمجة، كنت أسير في متاهات قراءاتي التي تمتد من قديم الشعر العربي إلى حديثه ومن قديم الأغريق إلى حديث أوروبا، وكان مثلي مثل ذلك الإنسان الذي تحدثت عنه  بعد سنوات طوال في ديواني (الذي يأتي ولا يأتي) إذ كان يحاول جمع أجزاء الصورة الممزقة للحصول على الصورة الكاملة أو يحاول العبور من الذات الشعرية إلى الذات العليا وإلى الآخر أيضاً..

* ثمة الكثير من الدراسات والكتب النقدية التي تناولت تجربة الشعر العربي الحديث أشارت إلى أن هناك تأثيرات واضحة من تجارب الشعر الأوروبي ومدارسه. إلى أي مدى تحمل هذه الأفكار حقيقتها؟ وأين تقع تجربتك من هذه التأثيرات؟

= قلت أنني منذ البداية لم أكن ميالاً لقراءة الكتب التي تتحدث عن المدارس الشعرية المختلفة، بل كنت أميل إلى قراءة الشعر الجيد، وأحاول أن أكتشف جودته، من غير النظر إلى أنه ينتمي إلى هذه المدرسة أو تلك، لأننا لو افترضنا أن عبقرية بابلو نيرودا تعود إلى كونه منتمياً إلى هذه المدرسة الشعرية أو تلك، لوقعنا في الفخ، فالعبقرية الشعرية تتمرد على كل الموازين والمدارس الشعرية، بل إنها تمتص رحيق هذه المدارس، وتفيد من جميع إنجازاتها من غير الوقوع في خطيئة الاتباع أو التقليد، كما أننا في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، لم نضع نصب أعيننا الشعر الاوروبي أو الشعر العربي القديم، لكي نحذو حذو هذا أو ذاك، بل إننا قد هضمنا قدر المستطاع، الإنجازات الفنية بشكل خاص، وحاولنا من خلال قدراتنا الشعرية التطلع إلى كتابة شعر جديد، ولذا فان التجديد جاء عفوياً، كما أنه جاء تلبية لدواع فنية واجتماعية وثقافية.

* ولكن التجديد الذي قدمتموه، أنت والسيَّاب ونازك، جاء على غرار مرحلة تجديد طالت الشعر الأوروبي ثم انتقلت بعد ذلك إلى الشعر العربي؟
= لو عدنا إلى حركة التجديد في الشعر العربي، لوجدنا أن هناك بعض المحاولات أو الإرهاصات التي سبقت تلك المرحلة، ولكن هذه المحاولات طمرت ولم يلتفت إليها أحد، لأنها جاءت خارج الحتمية الفنية والتاريخية، ثم هناك نظرة دونية تسود بلدان العالم المتخلفة حضارياً وتكنولوجياً، في ان النور يأتي من البلاد ذات الهيمنة العسكرية والتكنولوجية، وأنا ضد هذا الاتجاه والنظرة تماماً، لأن ولادة شاعر عظيم مثل طاغور في الهند تدحض مقولة إن الشعر الأوروبي كان هو مصدر الشعر العربي أو الياباني أو الأمريكي اللاتيني، إن شاعراً مثل بابلو نيرودا، لم يتورع عن نسبة إحدى قصائد طاغور إلى نفسه، وأدرجها ضمن احدى مجموعاته الشعرية، وعندما أكتشف أحد النقاد هذا الأمر، قدم نيرودا عذراً غير مسوغ. وفي قراءتي للشعر الأوروبي - الذي كتب من عصر فرلين ورامبو حتى الآن - رأيت كثيراً من التأثيرات الشرقية والعربية والإسلامية، لا من الشعر مباشرة بل من التراث الأدبي العظيم لهذه الشعوب، أي أن الشعر الأوروبي لم يتورع عن الأخذ من تراث أمم العالم الثالث القديم والحديث، من غير إشارة، بعده تراثاً قابلا للنهب، لأن أحداً لا يدافع عنه.

* دار المعلمين العالية كانت بؤرة للشعرية العربية الحديثة، هكذا اقرأ دائماً، كيف وجدت هذا المعلم الثقافي المهم؟، وما هو مناخ لقائك الأول بالسياب ونازك؟

= بالفعل كانت دار المعلمين العالية أهم بؤرة ثقافية وثورية في العراق، لأنها كانت تضم مختلف الأجناس والألوان، من أولئك الذين قدموا من شمال العراق، وجنوبه ووسطه، حيث التنوع الديني والمذهبي والثقافي والانتماء القومي، لعبت دار المعلمين دوراً مهماً في حياتي من ناحيتين، ناحية التعمق في قراءة التراث العربي القديم ودراسته، مثلما درست النحو والصرف والبلاغة بشكل مطول ومفصل ومكثف، حتى تخلصت من مشكلة اللغة(....) إلى جانب دراستنا للأدب الإنجليزي بعامة والشعر بخاصة (....) كما أن علاقاتي وعلاقة زملائي من الأدباء والطلبة بالأساتذة كان لها دور مهم، إذ ان هؤلاء الأساتذة كانوا يشجعوننا، ولا أقول جميعهم، بل البعض منهم، ومنذ تلك السنوات بدأ الاستقطاب الأدبي يعمل عمله، ويحفر مجراه في تيار الثقافة العراقية العربية، (....) كانت الدار فيه ساحة ثقافية تجمعني بأواصر من الصداقة والصلة مع الأدباء الشباب في تلك المرحلة، فعندما دخلت دار المعلمين، كانت الشاعرة نازك الملائكة قد تخرجت، وكان أول شاعر التقيت به هو الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى الذي كان في سنوات دراسته الأخيرة، وفي بداية الأشهر الأولى من دخولي الدار، وعندما كنت أتمشى في باحتها التقيت بالشاعر بدر شاكر السياب وجهاً لوجه، فسلم عليّ واستوقفني قائلا: (إنه قد بلغني إنك تكتب الشعر، ولهذا فأنا أود التعرف عليك). فدعوته إلى قدح من الشاي في (حانوت) الكلية، وجلسنا طوال ساعات الدروس ولم يذهب هو أو أذهب أنا إلى الدرس، وتحدثنا طويلاً، وكان قد كتب قصيدة جديدة في الليلة السابقة، فقرأها عليّ وأعجبتني، وعندما أظهرت إعجابي بها فرح فرحاً شديداً، بخاصة عندما تحدثت عنها بالتفصيل، وأدرك أنني لا أجامله، بل إنني كنت أتحدث بصدق إليه عن قصيدته، ومنذ تلك اللحظة توطدت أواصر الصداقة بيننا، واستمرت إلى أن تخرَّج قبلي، وعين مدرساً في مدينة (الرمادي) (....) ولم أعد أراه إلا لماماً، وفي مناسبات قليلة في بغداد. لكن صداقتنا لعبت دوراً مهما لأن بعضنا كان ينقد نتاج البعض بشيء من الموضوعية والنزاهة، وقليلاً ما اختلفنا، كما كنا نقرأ قصائد الشعراء الآخرين التي كانت تنشر في الصحف والمجلات العراقية والعربية، ثم انضم الينا الدكتور عبد الواحد لؤلؤة الذي كان يحب الأدب ويحاول أن يكون ناقداً في المستقبل، وكان يلعب دور الحكم أحياناً بيني وبين السيَّاب عندما نختلف بشأن مسألة من المسائل.

* السفر، المنفى، الرحيل، الهجرة، تلك مفردات لطالما علقت مضامينها في حياة البياتي إنسانا وشاعراً، كيف تصف ذلك؟، وأي الأسفار كان لها الوقع الأكبر على مسيرتك الحياتية والشعرية؟

= لقد تحققت نبوءة العرافة التي قرأت لي أزمنة للرحيل والاغتراب، فها أنا في دمشق أجد أن اسمي قد سبقني إليها. وأن (أباريق مهشمة) كان هو الفاتح الأول، وانخرطت منذ اليوم الأول في التجمعات الأدبية، ولكني رأيت أن بيروت أقرب اليّ من دمشق في تلك الأيام فذهبت إليها، ووجدت أن مواردي المادية لا تساعدني على الاستمرار، ولهذا عملت مدرساً في إحدى المدارس الثانوية ـ مضطراً ـ (....) لكن إقامتي في بيروت لم تطل، نظراً لأن حلف بغداد بدأ يدق الأبواب في معظم العواصم العربية التي كانت خاضعة للنفوذ الغربي، فعدت إلى دمشق، لأن دمشق كانت آنذاك العاصمة التي تقاوم حلف بغداد وكانت ملجأ ومجمعاً للمثقفين والسياسيين من جميع الأقطار (....) إلا أن إقامتي في دمشق كانت قلقة، لأن أحوالي المادية غير مستقرة، كان مسكني في حالة يرثى لها، لكنني كنت أتغلب على أوجاعي بالكتابة، وهكذا بدأت قصائد (أشعار في المنفى) تظهر الواحدة بعد الأخرى، فقررت السفر إلى مصر (....) وكان ذلك عام 1956، عندما زار دمشق وفد برلماني كبير، وكان معهم بعض الصحفيين والكتاب مثل عبد الرحمن الشرقاوي وفاروق القاضي وسواهما، وعندما عرفوا بوضعي تحمسوا لأن أذهب معهم إلى مصر، وكان جواز سفري قد انتهت مدة صلاحيته وامتلأت صفحاته ولهذا كُلّم الأستاذ الخميسي رئيس الوفد البرلماني عن وضعي، فوعد أن يحدِّث الرئيس عبد الناصر وسلطات المطار، وبهذا سافرت بعد سفر الوفد بيومين مع الاستاذ الخميسي بجواز سفر غير صالح تماماً (....) كانت إقامتي في القاهرة في تلك المناسبة قصيرة، انتقلت بعدها إلى دمشق مرة أخرى، ومن هناك إلى فيينا ومن فيينا إلى موسكو بدعوة من اتحاد الكتاب السوفييت، بقيت في موسكو خمس سنوات، ثم عدت بعدها إلى القاهرة، (....) التقيت خلال رحلاتي الطويلة بعدد من الأدباء والشعراء العالميين وقد ضمتنا صداقة وحميمية وإعجاب متبادل، ومن أولئك مثلاً الشاعر الكبير ناظم حكمت ورفائيل البرتي واكتافيو بات وكاردينال وماركيز وسواهم.. كما أقيمت لي حفلات وأمسيات في عدد من دول العالم ومنحت خلالها بعض الجوائز.

* وكيف كان الشعر يتأتى في خضم هذه التحولات المكانية المختلفة؟ وما هو تأثير المنفى ومناخاته على روح الشاعر وشعره؟

= النفي لدي ليس بالجسد وحسب، بل هناك نفي أشد، هو الإحساس الداخلي بالنفي والشعور بالاستلاب، فقد أحسست بالنفي قبل حصول النفي نفسه، أي أنني أحسست بأني منفي منذ طفولتي، سواء في القرية أم في المدينة، واكتشفت أن العالم ما هو إلا منفى داخل منفى آخر، ولهذا عندما وجدت نفسي أمام النفي الحقيقي شعرت كأنما كنت أصعد سلماً معروفاً لي من قبل. أما الشعر فقد كانت له تجربة لا تنفصل عن تجربتي مع النفي، فقبيل مغادرتي العراق، كنت قد انتهيت من قصائد ديواني (المجد للأطفال والزيتون) وأرسلته بالبريد المسجل من بغداد إلى القاهرة، وكنت قد كتبت في إحدى قصائدي (أبحرت السفن، ما كان لم يكن) وهكذا كانت حياتي كلها محواً وكتابة، وكان مثلي مثل من يقوم بالفتح الروحي لمدينة أو قصيدة، وعندما يصل إليها يرى إنها ليست هي المدينة أو القصيدة، ولكن عندما أعود أرى ان كل شيء احترق وتحول إلى رماد (....) الشاعر كما أرى قد كتب عليه أن يعيش في متاهة ذات مئة باب، من غير نهاية سعيدة وربما تكون القصيدة هي وطن الشاعر، ولكن عن أية قصيدة نتحدث؟، هل نتحدث عن القصيدة الاولى أو الثانية أو العشرين أو المئة، أو القصيدة التي لم نكتبها بعد؟ من هذا نستخلص أن الشاعر يعيش بلا وطن..

* كيف تقيِّم المشروع الثقافي العربي وحركيته إزاء ما ينتاب الواقع السياسي من جمود وسكون مضى عليهما عقود من الزمن؟، وما هي مصبات التأثير في كلا الكيانين؟

= إن المرحلة التي تعيشها الثقافة العربية خلال هذه السنوات هي مرحلة تدمير لمكونات الثقافة وحقولها، وهذا التدمير أسهم فيه المثقف والسياسي على حد سواء (.....) والمدهش أن القوى السياسية كانت غافلة وما تزال عن واقعة أن تدمير الثقافة هو تدمير لما بقي في العالم العربي (....) لأن الفئات السياسية ليس لها رؤية مستقبلية، فأغلب حركات التغيير اقتصرت على الناحية السياسية فقط.. والسياسة استخدمت الثقافة وسيلة للتغيير وليس من أجل الحياة. حتى الثورة الروسية دفعت بالمثقفين إلى الصفوف الخلفية بعد انتصارها - وهذا ما فعلته أغلب الثورات في العالم الثالث - ولو استمر الكتاب في الصفوف الأولى لأدى الأمر إلى نتائج باهرة، وهذا يضعنا أمام قضية ميتافيزيقية هي حتمية وجود الشر وتأثيره على مسار الثورات الخيرة، أعتقد أن المعاناة التاريخية نصفها ميتافيزيقي، وهو بشكل خاص النصف غير الظاهر أو الوجه الآخر للقضية، ومن هنا فإن كثيراً من نضالات الشعوب تسقط عندما تحقق النصر، لأن القضية الميتافيزيقية انتهت، هذا ما حدث لثورة الجزائر أو الصين، سبّب انعدام وجود عقل مفكر لكينونة الثورة أو التغيير. وفيما يخص الوضع العربي على صعيده السياسي فإن السلطة الفلسطينية التي هي بلا زمان ولا مكان تمثل الوعي العربي في أقصى حالات تسيَّبه، فهو وعي بلا زمان ولا مكان، أي وعي مفرغ من مضمونه التاريخي، من مكوناته الحضارية، من أبعاده الثقافية والقومية، لقد قامت الحركات الوطنية في الأقطار العربية بمواجهات سياسية إقليمية مقطوعة عن الثقافة العربية، فصار الحكم العربي المعاصر يتصرف بشكل عفوي - إذا حذفنا سوء النية - بعيداً عن الدراسات الفكرية للواقع العربي، وهذا بدوره يؤدي إلى عدم تطور العقل العربي، لأن الدراسة لا تتطور إلا حين توضع على محك التجريب، وكان من المفترض أن يكون الفلاسفة وعلماء الاجتماع والعلوم، أساتذة للسياسيين العرب، لأن المثقفين قادرون على أن يفيدوا من إنجازات الغير، من دون أن يستسلموا لقوالبه الجامدة، في حين أن السياسي العربي يتنكر لمن سبقه، ويحاول أن يبدأ من الصفر، لهذا فلا تجد في البرامج السياسية العربية رؤية لمشروع قومي خالص يدمج الثقافة بالسياسة، والتراث الماضي بخطة المستقبل، فتحول العالم العربي إلى أسواق استهلاكية ومزارع للدواجن وأنهار من الدم، فكيف يمكن أن تقوم ثقافة عربية تقدمية جامعة في مثل هذه الحالة؟، العرب اليوم مصابون بتلوث الثقافة وبيئتها، أو بعطب فني يمنعهم من الإبداع الحضاري، وهذا ينطبق أول ما ينطبق على الإبداع الشعري، لإن الشعر متى فقد بعده الحضاري، صار بالتالي عديم الإنسانية، صار ثائراً بلا قضية، فهو ضد القيم كلها، وفي الوقت نفسه فهو ليس ضد شيء معين (....) إن الشاعر الآن يعاني من الإحباط المادي والروحي، والانقطاع الثقافي والفلسفي، لكن الشعر العربي المعاصر - ولا أقول الشاعر - يظل يواصل مسيرته من خلال بعض النماذج وبعض الشعراء، لإيجاد  نقاط ضوء جديدة ومراحل انتقال للخروج من هذه الأزمة التي هي ليست أزمة شعر بقدر ما هي أزمة حضارة.

* يرى أحد النقاد: (أن عقدة قتل الأب لدى الغربيين، تتحول عند الشرقيين عقدة لقتل الابن) هل ترى في هذه المقولة حقيقة تفسر ما يقوله شعراء الأجيال السابقة عن الأجيال التي تليهم أو عن مستقبل الشعر بوجه عام؟
= ليست هناك عمليات قتل لا للأب ولا للإبن، لأن المبدع الحقيقي يحتل منزلته منذ قصيدته الأولى، والشعراء المجيدون المبدعون أشبه بأشجار الغابة تقف كل شجرة منها إلى جانب أختها أو أمها أو أبيها وجميعها تطعم الجياع من ثمراتها ويستقبلون الشمس والريح والمطر و(.....) ومستقبل الشعر العربي يرتبط بالإبداع أولا، فالإبداع الحقيقي ليس بالأشكال الشعرية، فهو ليس مرتبطاً بالقصيدة العمودية أو بقصيدة النثر (.....) والقصيدة العظيمة    -كما أعتقد- هي عظيمة لا لأنها مكتوبة بشكل معين، بل لأن الشاعر الكبير يمتلك موهبة عظيمة، والمبدع الحقيقي يتخطى كل حدود الجغرافيا والتاريخ، ويحطم كل الأسوار والأقفاص والقيود ويكون مثلاً (...) إنني أؤمن بتعاقب الأجيال كما تتعاقب الفصول، وبأن نار الشعر لا تخبو، ولهذا 

فإن نار الخمسينات ظلت متقدة، وظل مشعل الشعر منذ تلك السنوات حتى الآن كشعلة (الأولمب) في أيدي الشعراء، يطوفون بها من قطر إلى آخر، ومن زمن إلى زمن آخر، لكنني احترس هنا فأقول: إن رفع بوابات السد أمام ماء الشعر لا يعني هذه الكثرة من الشعراء، التي تملأ الصحف والمجلات، ذلك أن الشعر الحقيقي نعمة نادرة، وهي لا تهبط من أحد على هذا الشاعر أو ذاك بركة أو هبة، بل إنها صعود إلى جبل الجلجلة وعذاب، وأن حمل صليب الشعر مهنة شاقة، وكما أن الشعر نعمة نادرة، فإن الشعراء المبدعين هم نعمة نادرة ايضاً، واستطيع أن أتخيل - الآن - وأنا أكتب هذه السطور بشأن سنوات الخمسينات ، لأرى أن عقد التسعينات يمتلئ بالصخب والعنف نفسيهما، اللذين كانا يسودان عقد الخمسينات، وكما أن تلك السنوات قد أفرزت قلة قليلة نادرة من الشعراء الحقيقين فأننا نرى الآن في التسعينات أن 
الشعراء الحقيقيين ما يزالون هم القلة القليلة النادرة، على الرغم من الصخب اليومي الإعلامي، وكثرة المنابر والمجلات والمهرجانات (...) وقد لا أبالغ إذا قلت أن أربعين عاماً من عمر الشعر العربي الحديث لم تنجب أكثر من عشرة شعراء حقيقيين، وهذه نسبة عالية وصحية، ذلك أن أحقاب الشعر العربي القديم لم تنجب هذا القدر.
***
 

"من قصائده"

قمري الحزينْ
(1)
البحر مات وغيّبت أمواجُهُ السوداء قلع السندبادْ
ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى
المبحوح عاد
والأفق كَفَّنَهُ الرمادْ
فَلِمَنْ تغنّي الساحراتْ ؟
والعشب فوق جبينه يطفو وتطفو دنيوات
كانت لنا فيها ، إذا غنى المغنّي ، ذكريات
غرقت جزيرتنا وما عاد الغناء
إلا بكاءْ
والقُبَّرَاتْ
طارت ، فيا قمري الحزين
الكنز في المجرى دفين
في آخر البستان ، تحت شجيرة الليمون ، خبأهُ هناك السندبادْ
لكنه خاوٍ ، وها أنَّ الرماد

والثلجَ والظلمات والأوراق تطمره وتطمر بالضباب الكائنات
أكذا نموت بهذه الأرض الخراب ؟
ويجفّ قنديلُ الطفولةِ في التراب ؟
أهكذا شمس النهار
تخبو وليس بموقد الفقراءِ نارْ ؟
(2)
مُدنٌ بلا فجرٍ تنامْ
ناديتُ باسمكَ في شوارعِها، فجاوبني الظلام
وسألتُ عنكَ الريحَ وهي تَئِنّ في قلبِ السكون
ورأيتُ وجهَكَ في المرايا والعيون
وفي زجاجِ نوافذِ الفجرِ البعيدْ
وفي بطاقاتِ البريدْ
مُدُنٌ بلا فجرٍ يُغطّيها الجليد
هجرتْ كنائسَهَا عصافيرُ الربيعْ
فَلِمَنْ تُغَنِّي ؟ والمقاهي أوصدتْ أبوابَهَا
وَلِمَنْ تُصَلِّي ؟ أيها القلبُ الصَّدِيع
والليلُ ماتْ

والمركبات
عادتْ بلا خيلٍ يُغَطِّيهَا الصَّقِيع
وسائقوها ميتون
أهكذا تمضي السنون ؟
ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ
نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ
فُقَرَاء ، يا قَمَرِي ، نَمُوت
وقطارُنا أبداً يَفُوت..
***
أولد وأحترق
(1)
تستيقظ (لارا) في ذاكرتي: قطًّا تتريًّا, يتربص بي, يتمطَّى, يتثاءب
يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم. أراها في قاع جحيم المدن
القطبية تشنقني بضفائرها وتعلقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدودًا في خيط دموعي.
أصرخ: (لارا) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) أعدو خلف الريح وخلف
قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى

.لا يدري أحد. أمضى تحت الثلج
وحيدًا, أبكي حبي العاثر في كل مقاهي العالم والحانات.
(2)
في لوحات (اللوفر) والأيقوناتْ
في أحزان عيون الملكات
في سحر المعبودات
كانت (لارا) تثوي تحت قناع الموت الذهبي وتحت شعاع النور الغارق في اللوحات
تدعوني, فأقرِّب وجهي منها, محمومًا أبكي
لكنَّ يدًا تمتد, فتمسح كل اللوحات وتخفي كل الأيقونات
تاركة فوق قناع الموت الذهبي بصيصًا من نورٍ لنهارٍ مات.
(3)
(لارا! رحلتْ)
(لارا! انتحرت)
قال البوَّاب وقالت جارتها, وانخرطت ببكاءٍ حارْ
قالت أخرى: (لا يدري أحد, حتى الشيطان).

(4)
أرمي قنبلة تحت قطار الليل المشحون بأوراق خريف
في ذاكرتي, أزحف بين الموتى, أتلمس دربي في
أوحال حقولٍ لم تحرث, أستنجد بالحرس الليلى
لأوقف في ذاكرتي هذا الحب المفترس الأعمى, هذا
النور الأسود, محمومًا تحت المطر المتساقط
أطلق في الفجر على نفسي النارْ.

(5)
منفيًّا في ذاكرتي
محبوسًا في الكلماتْ
أشرد تحت الأمطارْ أصرخ: (لارا!)
أصرخ: (لارا!)
فتجيب الريح المذعورة: (لارا!).
(6)
في قصر الحمراء
في غرفات حريم الملك الشقراوات

أسمع عودًا شرقيًّا وبكاء غزال
أدنو مبهورًا من هالات الحرف العربي المضفور بآلاف الأزهار
أسمع آهات
كانت (لارا) تحت الأقمار السبعة والنور الوهاج
تدعوني فأقرِّب وجهي منها, محمومًا أبكي,
لكنَّ يدًا تمتد, فتقذفني في بئر الظلماتْ
تاركة فوق السجادة قيثاري وبصيصًا من نور لنهارٍ ماتْ.
(7)
(لم تترك عنوانًا) قال مدير المسرح وهو يَمُطُّ الكلمات.

(8)
تسقط في غابات البحر الأسود أوراق الأشجارْ
تنطفئ الأضواء ويرتحل العشاق
وأظل أنا وحدي, أبحث عنها, محمومًا أبكي تحت الأمطار.
(9)
أصرخ: (لارا!) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) في كوخ الصياد.
(10)
أرسم صورتها فوق الثلج, فيشتعل اللون الأخضر في عينيها 

والعسليُّ
الداكن, يدنو فمها الكرزيُّ الدافئُ من وجهي,
تلتحم الأيدي بعناق
أبدي, لكنَّ يدًا تمتدُّ, فتمسح صورتها, 
تاركة فوق اللون المقتول
بصيصًا من نورٍ لنهارٍ ماتْ
(11)
شمس حياتي غابت. لا يدري أحد. الحب وجود أعمى ووحيد
. ما من أحدٍ يعرف في هذا المنفى أحدًا. الكل وحيدٌ. قلب العالم من حجرٍ في هذا المنفى – الملكوتْ...
أكتشفُ الأنفاقَ الحجريةَ في روحي
والمنفى والنارْ
ومقابرَ بغداد.
أكتشفُ اللوحَ المحفوظْ
والمقبوسَ المسماريَّ النابضَ في جدل الروحْ.
**


الموت والقنديل
(1)
صيحاتك كانت فأس الحطَّاب الموغل في
غابات اللغة العذراء, وكانت ملكًا أسطوريًّا
يحكم في مملكة العقل الباطن والأصقاع
الوثنية حيث الموسيقى والسحر الأسود
والجنس وحيث الثورة والموت . قناع الملك
الأسطوري الممتقع الوجه وراء زجاج نوافذ
قصر الصيف وكانت عربات الحرب
الآشورية تحت الأبراج المحروقة كانت
صيحاتك صوت نبيٍّ يبكي تحت الأسوار
المهدومة شعبًا مستلبًا مهزومًا كانت برقًا
أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الربات .
وقاع الآبار المهجورة كانت صيحاتك
صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية
أرحل تحت الثلج أواصل موتي (...) حيث
الموسيقى والثورة والحب وحيث الله.

(2)
لغة الأسطورةْ
تسكن في فأس الحطَّاب الموغل في غابات اللغة العذراء
فلماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّابْ?
(3)
مات مغني الأزهار البريةِ
مات مغني النار
مات مغني عربات الحرب الآشورية تحت الأسوار.
(4)
صيحاتك كانت صيحاتي
فلماذا نتبارى في هذا المضمار?
فسباق البشر الفانين, هنا, أتعبني
وصراع الأقدار.
(5)
كان الروم أمامي وسوى الروم ورائي,
وأنا كنتُ أميل على سيفي منتحرًا تحت الثلج,
وقبل أفول النجم القطبيِّ وراء الأبراجْ
فلماذا سيف الدولة ولَّى الأدبارْ?

(6)
ها أنذا عارٍ عُري سماء الصحراءِ
حزينٌ حزنَ حصانٍ غجريٍّ
مسكونٌ بالنارْ.
(7)
وطني المنفى
منفايَ الكلماتْ.
(8)
صار وجودي شكلاً
والشكل وجودًا في اللغة العذراءْ.
(9)
لغتي صارت قنديلاً في باب الله.
(10)
أرحل تحت الثلج, أواصل موتي في الأصقاعْ.
(11)
أيتها الأشجار القطبية, يا صوت نبي يبكي, يا رعدًا
في الزمن الأرضيِّ المتفجر حبّا, يا نار الإبداع.
لماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّاب ليترك هذي

الغابات طعامًا للنار? لماذا ترك الشعراء
خنادقهم? ولماذا سيف الدولة ولَّى الأدبار? الروم
أمامي كانوا وسوى الروم ورائي وأنا كنت أميل
على سيفي منتحرًا تحت الثلج وقبل أفول النجمِ
القطبيِّ وراء الأبراج. صرختُ: تعالوا!
لغتي صارت قنديلاً في باب الله, حياتي
فرَّت من بين يدي, صارت شكلاً والشكلُ
وجودًا. فخذوا تاج الشوك وسيفي
وخذوا راحلتي
قطراتِ المطر العالق في شَعْرِي
زهرةَ عباد الشمس الواضعةَ الخد على خدي
تذكارات طفولة حبي
كتبي, موتي
فسيبقى صوتي
قنديلاً في باب الله

 

بل كنت أميل إلى قراءة الشعر الجيد، وأحاول أن أكتشف جودته، من غير النظر إلى أنه ينتمي إلى هذه المدرسة أو تلك، لأننا لو افترضنا أن عبقرية بابلو نيرودا تعود إلى كونه منتمياً إلى هذه المدرسة الشعرية أو تلك، لوقعنا في الفخ، فالعبقرية الشعرية تتمرد على كل الموازين والمدارس الشعرية، بل إنها تمتص رحيق هذه المدارس، وتفيد من جميع إنجازاتها من غير الوقوع في خطيئة الاتباع أو التقليد، كما أننا في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، لم نضع نصب أعيننا الشعر الاوروبي أو الشعر العربي القديم، لكي نحذو حذو هذا أو ذاك، بل إننا قد هضمنا قدر المستطاع، الإنجازات الفنية بشكل خاص، وحاولنا من خلال قدراتنا الشعرية التطلع إلى كتابة شعر جديد، ولذا فان التجديد جاء عفوياً، كما أنه جاء تلبية لدواع فنية واجتماعية وثقافية.

* ولكن التجديد الذي قدمتموه، أنت والسيَّاب ونازك، جاء على غرار مرحلة تجديد طالت الشعر الأوروبي ثم انتقلت بعد ذلك إلى الشعر العربي؟
= لو عدنا إلى حركة التجديد في الشعر العربي، لوجدنا أن هناك بعض المحاولات أو الإرهاصات التي سبقت تلك المرحلة، ولكن هذه المحاولات طمرت ولم يلتفت إليها أحد، لأنها جاءت خارج الحتمية الفنية والتاريخية، ثم هناك نظرة دونية تسود بلدان العالم المتخلفة حضارياً وتكنولوجياً، في ان النور يأتي من البلاد ذات الهيمنة العسكرية والتكنولوجية، وأنا ضد هذا الاتجاه والنظرة تماماً، لأن ولادة شاعر عظيم مثل طاغور في الهند تدحض مقولة إن الشعر الأوروبي كان هو مصدر الشعر العربي أو الياباني أو الأمريكي اللاتيني، إن شاعراً مثل بابلو نيرودا، لم يتورع عن نسبة إحدى قصائد طاغور إلى نفسه، وأدرجها ضمن احدى مجموعاته الشعرية، وعندما أكتشف أحد النقاد هذا الأمر، قدم نيرودا عذراً غير مسوغ. وفي قراءتي للشعر الأوروبي - الذي كتب من عصر فرلين ورامبو حتى الآن - رأيت كثيراً من التأثيرات الشرقية والعربية والإسلامية، لا من الشعر مباشرة بل من التراث الأدبي العظيم لهذه الشعوب، أي أن الشعر الأوروبي لم يتورع عن الأخذ من تراث أمم العالم الثالث القديم والحديث، من غير إشارة، بعده تراثاً قابلا للنهب، لأن أحداً لا يدافع عنه.

* دار المعلمين العالية كانت بؤرة للشعرية العربية الحديثة، هكذا اقرأ دائماً، كيف وجدت هذا المعلم الثقافي المهم؟، وما هو مناخ لقائك الأول بالسياب ونازك؟

= بالفعل كانت دار المعلمين العالية أهم بؤرة ثقافية وثورية في العراق، لأنها كانت تضم مختلف الأجناس والألوان، من أولئك الذين قدموا من شمال العراق، وجنوبه ووسطه، حيث التنوع الديني والمذهبي والثقافي والانتماء القومي، لعبت دار المعلمين دوراً مهماً في حياتي من ناحيتين، ناحية التعمق في قراءة التراث العربي القديم ودراسته، مثلما درست النحو والصرف والبلاغة بشكل مطول ومفصل ومكثف، حتى تخلصت من مشكلة اللغة(....) إلى جانب دراستنا للأدب الإنجليزي بعامة والشعر بخاصة (....) كما أن علاقاتي وعلاقة زملائي من الأدباء والطلبة بالأساتذة كان لها دور مهم، إذ ان هؤلاء الأساتذة كانوا يشجعوننا، ولا أقول جميعهم، بل البعض منهم، ومنذ تلك السنوات بدأ الاستقطاب الأدبي يعمل عمله، ويحفر مجراه في تيار الثقافة العراقية العربية، (....) كانت الدار فيه ساحة ثقافية تجمعني بأواصر من الصداقة والصلة مع الأدباء الشباب في تلك المرحلة، فعندما دخلت دار المعلمين، كانت الشاعرة نازك الملائكة قد تخرجت، وكان أول شاعر التقيت به هو الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى الذي كان في سنوات دراسته الأخيرة، وفي بداية الأشهر الأولى من دخولي الدار، وعندما كنت أتمشى في باحتها التقيت بالشاعر بدر شاكر السياب وجهاً لوجه، فسلم عليّ واستوقفني قائلا: (إنه قد بلغني إنك تكتب الشعر، ولهذا فأنا أود التعرف عليك). فدعوته إلى قدح من الشاي في (حانوت) الكلية، وجلسنا طوال ساعات الدروس ولم يذهب هو أو أذهب أنا إلى الدرس، وتحدثنا طويلاً، وكان قد كتب قصيدة جديدة في الليلة السابقة، فقرأها عليّ وأعجبتني، وعندما أظهرت إعجابي بها فرح فرحاً شديداً، بخاصة عندما تحدثت عنها بالتفصيل، وأدرك أنني لا أجامله، بل إنني كنت أتحدث بصدق إليه عن قصيدته، ومنذ تلك اللحظة توطدت أواصر الصداقة بيننا، واستمرت إلى أن تخرَّج قبلي، وعين مدرساً في مدينة (الرمادي) (....) ولم أعد أراه إلا لماماً، وفي مناسبات قليلة في بغداد. لكن صداقتنا لعبت دوراً مهما لأن بعضنا كان ينقد نتاج البعض بشيء من الموضوعية والنزاهة، وقليلاً ما اختلفنا، كما كنا نقرأ قصائد الشعراء الآخرين التي كانت تنشر في الصحف والمجلات العراقية والعربية، ثم انضم الينا الدكتور عبد الواحد لؤلؤة الذي كان يحب الأدب ويحاول أن يكون ناقداً في المستقبل، وكان يلعب دور الحكم أحياناً بيني وبين السيَّاب عندما نختلف بشأن مسألة من المسائل.

* السفر، المنفى، الرحيل، الهجرة، تلك مفردات لطالما علقت مضامينها في حياة البياتي إنسانا وشاعراً، كيف تصف ذلك؟، وأي الأسفار كان لها الوقع الأكبر على مسيرتك الحياتية والشعرية؟

= لقد تحققت نبوءة العرافة التي قرأت لي أزمنة للرحيل والاغتراب، فها أنا في دمشق أجد أن اسمي قد سبقني إليها. وأن (أباريق مهشمة) كان هو الفاتح الأول، وانخرطت منذ اليوم الأول في التجمعات الأدبية، ولكني رأيت أن بيروت أقرب اليّ من دمشق في تلك الأيام فذهبت إليها، ووجدت أن مواردي المادية لا تساعدني على الاستمرار، ولهذا عملت مدرساً في إحدى المدارس الثانوية ـ مضطراً ـ (....) لكن إقامتي في بيروت لم تطل، نظراً لأن حلف بغداد بدأ يدق الأبواب في معظم العواصم العربية التي كانت خاضعة للنفوذ الغربي، فعدت إلى دمشق، لأن دمشق كانت آنذاك العاصمة التي تقاوم حلف بغداد وكانت ملجأ ومجمعاً للمثقفين والسياسيين من جميع الأقطار (....) إلا أن إقامتي في دمشق كانت قلقة، لأن أحوالي المادية غير مستقرة، كان مسكني في حالة يرثى لها، لكنني كنت أتغلب على أوجاعي بالكتابة، وهكذا بدأت قصائد (أشعار في المنفى) تظهر الواحدة بعد الأخرى، فقررت السفر إلى مصر (....) وكان ذلك عام 1956، عندما زار دمشق وفد برلماني كبير، وكان معهم بعض الصحفيين والكتاب مثل عبد الرحمن الشرقاوي وفاروق القاضي وسواهما، وعندما عرفوا بوضعي تحمسوا لأن أذهب معهم إلى مصر، وكان جواز سفري قد انتهت مدة صلاحيته وامتلأت صفحاته ولهذا كُلّم الأستاذ الخميسي رئيس الوفد البرلماني عن وضعي، فوعد أن يحدِّث الرئيس عبد الناصر وسلطات المطار، وبهذا سافرت بعد سفر الوفد بيومين مع الاستاذ الخميسي بجواز سفر غير صالح تماماً (....) كانت إقامتي في القاهرة في تلك المناسبة قصيرة، انتقلت بعدها إلى دمشق مرة أخرى، ومن هناك إلى فيينا ومن فيينا إلى موسكو بدعوة من اتحاد الكتاب السوفييت، بقيت في موسكو خمس سنوات، ثم عدت بعدها إلى القاهرة، (....) التقيت خلال رحلاتي الطويلة بعدد من الأدباء والشعراء العالميين وقد ضمتنا صداقة وحميمية وإعجاب متبادل، ومن أولئك مثلاً الشاعر الكبير ناظم حكمت ورفائيل البرتي واكتافيو بات وكاردينال وماركيز وسواهم.. كما أقيمت لي حفلات وأمسيات في عدد من دول العالم ومنحت خلالها بعض الجوائز.

* وكيف كان الشعر يتأتى في خضم هذه التحولات المكانية المختلفة؟ وما هو تأثير المنفى ومناخاته على روح الشاعر وشعره؟

= النفي لدي ليس بالجسد وحسب، بل هناك نفي أشد، هو الإحساس الداخلي بالنفي والشعور بالاستلاب، فقد أحسست بالنفي قبل حصول النفي نفسه، أي أنني أحسست بأني منفي منذ طفولتي، سواء في القرية أم في المدينة، واكتشفت أن العالم ما هو إلا منفى داخل منفى آخر، ولهذا عندما وجدت نفسي أمام النفي الحقيقي شعرت كأنما كنت أصعد سلماً معروفاً لي من قبل. أما الشعر فقد كانت له تجربة لا تنفصل عن تجربتي مع النفي، فقبيل مغادرتي العراق، كنت قد انتهيت من قصائد ديواني (المجد للأطفال والزيتون) وأرسلته بالبريد المسجل من بغداد إلى القاهرة، وكنت قد كتبت في إحدى قصائدي (أبحرت السفن، ما كان لم يكن) وهكذا كانت حياتي كلها محواً وكتابة، وكان مثلي مثل من يقوم بالفتح الروحي لمدينة أو قصيدة، وعندما يصل إليها يرى إنها ليست هي المدينة أو القصيدة، ولكن عندما أعود أرى ان كل شيء احترق وتحول إلى رماد (....) الشاعر كما أرى قد كتب عليه أن يعيش في متاهة ذات مئة باب، من غير نهاية سعيدة وربما تكون القصيدة هي وطن الشاعر، ولكن عن أية قصيدة نتحدث؟، هل نتحدث عن القصيدة الاولى أو الثانية أو العشرين أو المئة، أو القصيدة التي لم نكتبها بعد؟ من هذا نستخلص أن الشاعر يعيش بلا وطن..

* كيف تقيِّم المشروع الثقافي العربي وحركيته إزاء ما ينتاب الواقع السياسي من جمود وسكون مضى عليهما عقود من الزمن؟، وما هي مصبات التأثير في كلا الكيانين؟

= إن المرحلة التي تعيشها الثقافة العربية خلال هذه السنوات هي مرحلة تدمير لمكونات الثقافة وحقولها، وهذا التدمير أسهم فيه المثقف والسياسي على حد سواء (.....) والمدهش أن القوى السياسية كانت غافلة وما تزال عن واقعة أن تدمير الثقافة هو تدمير لما بقي في العالم العربي (....) لأن الفئات السياسية ليس لها رؤية مستقبلية، فأغلب حركات التغيير اقتصرت على الناحية السياسية فقط.. والسياسة استخدمت الثقافة وسيلة للتغيير وليس من أجل الحياة. حتى الثورة الروسية دفعت بالمثقفين إلى الصفوف الخلفية بعد انتصارها - وهذا ما فعلته أغلب الثورات في العالم الثالث - ولو استمر الكتاب في الصفوف الأولى لأدى الأمر إلى نتائج باهرة، وهذا يضعنا أمام قضية ميتافيزيقية هي حتمية وجود الشر وتأثيره على مسار الثورات الخيرة، أعتقد أن المعاناة التاريخية نصفها ميتافيزيقي، وهو بشكل خاص النصف غير الظاهر أو الوجه الآخر للقضية، ومن هنا فإن كثيراً من نضالات الشعوب تسقط عندما تحقق النصر، لأن القضية الميتافيزيقية انتهت، هذا ما حدث لثورة الجزائر أو الصين، سبّب انعدام وجود عقل مفكر لكينونة الثورة أو التغيير. وفيما يخص الوضع العربي على صعيده السياسي فإن السلطة الفلسطينية التي هي بلا زمان ولا مكان تمثل الوعي العربي في أقصى حالات تسيَّبه، فهو وعي بلا زمان ولا مكان، أي وعي مفرغ من مضمونه التاريخي، من مكوناته الحضارية، من أبعاده الثقافية والقومية، لقد قامت الحركات الوطنية في الأقطار العربية بمواجهات سياسية إقليمية مقطوعة عن الثقافة العربية، فصار الحكم العربي المعاصر يتصرف بشكل عفوي - إذا حذفنا سوء النية - بعيداً عن الدراسات الفكرية للواقع العربي، وهذا بدوره يؤدي إلى عدم تطور العقل العربي، لأن الدراسة لا تتطور إلا حين توضع على محك التجريب، وكان من المفترض أن يكون الفلاسفة وعلماء الاجتماع والعلوم، أساتذة للسياسيين العرب، لأن المثقفين قادرون على أن يفيدوا من إنجازات الغير، من دون أن يستسلموا لقوالبه الجامدة، في حين أن السياسي العربي يتنكر لمن سبقه، ويحاول أن يبدأ من الصفر، لهذا فلا تجد في البرامج السياسية العربية رؤية لمشروع قومي خالص يدمج الثقافة بالسياسة، والتراث الماضي بخطة المستقبل، فتحول العالم العربي إلى أسواق استهلاكية ومزارع للدواجن وأنهار من الدم، فكيف يمكن أن تقوم ثقافة عربية تقدمية جامعة في مثل هذه الحالة؟، العرب اليوم مصابون بتلوث الثقافة وبيئتها، أو بعطب فني يمنعهم من الإبداع الحضاري، وهذا ينطبق أول ما ينطبق على الإبداع الشعري، لإن الشعر متى فقد بعده الحضاري، صار بالتالي عديم الإنسانية، صار ثائراً بلا قضية، فهو ضد القيم كلها، وفي الوقت نفسه فهو ليس ضد شيء معين (....) إن الشاعر الآن يعاني من الإحباط المادي والروحي، والانقطاع الثقافي والفلسفي، لكن الشعر العربي المعاصر - ولا أقول الشاعر - يظل يواصل مسيرته من خلال بعض النماذج وبعض الشعراء، لإيجاد  نقاط ضوء جديدة ومراحل انتقال للخروج من هذه الأزمة التي هي ليست أزمة شعر بقدر ما هي أزمة حضارة.

* يرى أحد النقاد: (أن عقدة قتل الأب لدى الغربيين، تتحول عند الشرقيين عقدة لقتل الابن) هل ترى في هذه المقولة حقيقة تفسر ما يقوله شعراء الأجيال السابقة عن الأجيال التي تليهم أو عن مستقبل الشعر بوجه عام؟
= ليست هناك عمليات قتل لا للأب ولا للإبن، لأن المبدع الحقيقي يحتل منزلته منذ قصيدته الأولى، والشعراء المجيدون المبدعون أشبه بأشجار الغابة تقف كل شجرة منها إلى جانب أختها أو أمها أو أبيها وجميعها تطعم الجياع من ثمراتها ويستقبلون الشمس والريح والمطر و(.....) ومستقبل الشعر العربي يرتبط بالإبداع أولا، فالإبداع الحقيقي ليس بالأشكال الشعرية، فهو ليس مرتبطاً بالقصيدة العمودية أو بقصيدة النثر (.....) والقصيدة العظيمة    -كما أعتقد- هي عظيمة لا لأنها مكتوبة بشكل معين، بل لأن الشاعر الكبير يمتلك موهبة عظيمة، والمبدع الحقيقي يتخطى كل حدود الجغرافيا والتاريخ، ويحطم كل الأسوار والأقفاص والقيود ويكون مثلاً (...) إنني أؤمن بتعاقب الأجيال كما تتعاقب الفصول، وبأن نار الشعر لا تخبو، ولهذا 

فإن نار الخمسينات ظلت متقدة، وظل مشعل الشعر منذ تلك السنوات حتى الآن كشعلة (الأولمب) في أيدي الشعراء، يطوفون بها من قطر إلى آخر، ومن زمن إلى زمن آخر، لكنني احترس هنا فأقول: إن رفع بوابات السد أمام ماء الشعر لا يعني هذه الكثرة من الشعراء، التي تملأ الصحف والمجلات، ذلك أن الشعر الحقيقي نعمة نادرة، وهي لا تهبط من أحد على هذا الشاعر أو ذاك بركة أو هبة، بل إنها صعود إلى جبل الجلجلة وعذاب، وأن حمل صليب الشعر مهنة شاقة، وكما أن الشعر نعمة نادرة، فإن الشعراء المبدعين هم نعمة نادرة ايضاً، واستطيع أن أتخيل - الآن - وأنا أكتب هذه السطور بشأن سنوات الخمسينات ، لأرى أن عقد التسعينات يمتلئ بالصخب والعنف نفسيهما، اللذين كانا يسودان عقد الخمسينات، وكما أن تلك السنوات قد أفرزت قلة قليلة نادرة من الشعراء الحقيقين فأننا نرى الآن في التسعينات أن 
الشعراء الحقيقيين ما يزالون هم القلة القليلة النادرة، على الرغم من الصخب اليومي الإعلامي، وكثرة المنابر والمجلات والمهرجانات (...) وقد لا أبالغ إذا قلت أن أربعين عاماً من عمر الشعر العربي الحديث لم تنجب أكثر من عشرة شعراء حقيقيين، وهذه نسبة عالية وصحية، ذلك أن أحقاب الشعر العربي القديم لم تنجب هذا القدر.
***
 

"من قصائده"

قمري الحزينْ
(1)
البحر مات وغيّبت أمواجُهُ السوداء قلع السندبادْ
ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى
المبحوح عاد
والأفق كَفَّنَهُ الرمادْ
فَلِمَنْ تغنّي الساحراتْ ؟
والعشب فوق جبينه يطفو وتطفو دنيوات
كانت لنا فيها ، إذا غنى المغنّي ، ذكريات
غرقت جزيرتنا وما عاد الغناء
إلا بكاءْ
والقُبَّرَاتْ
طارت ، فيا قمري الحزين
الكنز في المجرى دفين
في آخر البستان ، تحت شجيرة الليمون ، خبأهُ هناك السندبادْ
لكنه خاوٍ ، وها أنَّ الرماد

والثلجَ والظلمات والأوراق تطمره وتطمر بالضباب الكائنات
أكذا نموت بهذه الأرض الخراب ؟
ويجفّ قنديلُ الطفولةِ في التراب ؟
أهكذا شمس النهار
تخبو وليس بموقد الفقراءِ نارْ ؟
(2)
مُدنٌ بلا فجرٍ تنامْ
ناديتُ باسمكَ في شوارعِها، فجاوبني الظلام
وسألتُ عنكَ الريحَ وهي تَئِنّ في قلبِ السكون
ورأيتُ وجهَكَ في المرايا والعيون
وفي زجاجِ نوافذِ الفجرِ البعيدْ
وفي بطاقاتِ البريدْ
مُدُنٌ بلا فجرٍ يُغطّيها الجليد
هجرتْ كنائسَهَا عصافيرُ الربيعْ
فَلِمَنْ تُغَنِّي ؟ والمقاهي أوصدتْ أبوابَهَا
وَلِمَنْ تُصَلِّي ؟ أيها القلبُ الصَّدِيع
والليلُ ماتْ

والمركبات
عادتْ بلا خيلٍ يُغَطِّيهَا الصَّقِيع
وسائقوها ميتون
أهكذا تمضي السنون ؟
ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ
نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ
فُقَرَاء ، يا قَمَرِي ، نَمُوت
وقطارُنا أبداً يَفُوت..
***
أولد وأحترق
(1)
تستيقظ (لارا) في ذاكرتي: قطًّا تتريًّا, يتربص بي, يتمطَّى, يتثاءب
يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم. أراها في قاع جحيم المدن
القطبية تشنقني بضفائرها وتعلقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدودًا في خيط دموعي.
أصرخ: (لارا) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) أعدو خلف الريح وخلف
قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى

.لا يدري أحد. أمضى تحت الثلج
وحيدًا, أبكي حبي العاثر في كل مقاهي العالم والحانات.
(2)
في لوحات (اللوفر) والأيقوناتْ
في أحزان عيون الملكات
في سحر المعبودات
كانت (لارا) تثوي تحت قناع الموت الذهبي وتحت شعاع النور الغارق في اللوحات
تدعوني, فأقرِّب وجهي منها, محمومًا أبكي
لكنَّ يدًا تمتد, فتمسح كل اللوحات وتخفي كل الأيقونات
تاركة فوق قناع الموت الذهبي بصيصًا من نورٍ لنهارٍ مات.
(3)
(لارا! رحلتْ)
(لارا! انتحرت)
قال البوَّاب وقالت جارتها, وانخرطت ببكاءٍ حارْ
قالت أخرى: (لا يدري أحد, حتى الشيطان).

(4)
أرمي قنبلة تحت قطار الليل المشحون بأوراق خريف
في ذاكرتي, أزحف بين الموتى, أتلمس دربي في
أوحال حقولٍ لم تحرث, أستنجد بالحرس الليلى
لأوقف في ذاكرتي هذا الحب المفترس الأعمى, هذا
النور الأسود, محمومًا تحت المطر المتساقط
أطلق في الفجر على نفسي النارْ.

(5)
منفيًّا في ذاكرتي
محبوسًا في الكلماتْ
أشرد تحت الأمطارْ أصرخ: (لارا!)
أصرخ: (لارا!)
فتجيب الريح المذعورة: (لارا!).
(6)
في قصر الحمراء
في غرفات حريم الملك الشقراوات

أسمع عودًا شرقيًّا وبكاء غزال
أدنو مبهورًا من هالات الحرف العربي المضفور بآلاف الأزهار
أسمع آهات
كانت (لارا) تحت الأقمار السبعة والنور الوهاج
تدعوني فأقرِّب وجهي منها, محمومًا أبكي,
لكنَّ يدًا تمتد, فتقذفني في بئر الظلماتْ
تاركة فوق السجادة قيثاري وبصيصًا من نور لنهارٍ ماتْ.
(7)
(لم تترك عنوانًا) قال مدير المسرح وهو يَمُطُّ الكلمات.

(8)
تسقط في غابات البحر الأسود أوراق الأشجارْ
تنطفئ الأضواء ويرتحل العشاق
وأظل أنا وحدي, أبحث عنها, محمومًا أبكي تحت الأمطار.
(9)
أصرخ: (لارا!) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) في كوخ الصياد.
(10)
أرسم صورتها فوق الثلج, فيشتعل اللون الأخضر في عينيها 

والعسليُّ
الداكن, يدنو فمها الكرزيُّ الدافئُ من وجهي,
تلتحم الأيدي بعناق
أبدي, لكنَّ يدًا تمتدُّ, فتمسح صورتها, 
تاركة فوق اللون المقتول
بصيصًا من نورٍ لنهارٍ ماتْ
(11)
شمس حياتي غابت. لا يدري أحد. الحب وجود أعمى ووحيد
. ما من أحدٍ يعرف في هذا المنفى أحدًا. الكل وحيدٌ. قلب العالم من حجرٍ في هذا المنفى – الملكوتْ...
أكتشفُ الأنفاقَ الحجريةَ في روحي
والمنفى والنارْ
ومقابرَ بغداد.
أكتشفُ اللوحَ المحفوظْ
والمقبوسَ المسماريَّ النابضَ في جدل الروحْ.
**


الموت والقنديل
(1)
صيحاتك كانت فأس الحطَّاب الموغل في
غابات اللغة العذراء, وكانت ملكًا أسطوريًّا
يحكم في مملكة العقل الباطن والأصقاع
الوثنية حيث الموسيقى والسحر الأسود
والجنس وحيث الثورة والموت . قناع الملك
الأسطوري الممتقع الوجه وراء زجاج نوافذ
قصر الصيف وكانت عربات الحرب
الآشورية تحت الأبراج المحروقة كانت
صيحاتك صوت نبيٍّ يبكي تحت الأسوار
المهدومة شعبًا مستلبًا مهزومًا كانت برقًا
أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الربات .
وقاع الآبار المهجورة كانت صيحاتك
صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية
أرحل تحت الثلج أواصل موتي (...) حيث
الموسيقى والثورة والحب وحيث الله.

(2)
لغة الأسطورةْ
تسكن في فأس الحطَّاب الموغل في غابات اللغة العذراء
فلماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّابْ?
(3)
مات مغني الأزهار البريةِ
مات مغني النار
مات مغني عربات الحرب الآشورية تحت الأسوار.
(4)
صيحاتك كانت صيحاتي
فلماذا نتبارى في هذا المضمار?
فسباق البشر الفانين, هنا, أتعبني
وصراع الأقدار.
(5)
كان الروم أمامي وسوى الروم ورائي,
وأنا كنتُ أميل على سيفي منتحرًا تحت الثلج,
وقبل أفول النجم القطبيِّ وراء الأبراجْ
فلماذا سيف الدولة ولَّى الأدبارْ?

(6)
ها أنذا عارٍ عُري سماء الصحراءِ
حزينٌ حزنَ حصانٍ غجريٍّ
مسكونٌ بالنارْ.
(7)
وطني المنفى
منفايَ الكلماتْ.
(8)
صار وجودي شكلاً
والشكل وجودًا في اللغة العذراءْ.
(9)
لغتي صارت قنديلاً في باب الله.
(10)
أرحل تحت الثلج, أواصل موتي في الأصقاعْ.
(11)
أيتها الأشجار القطبية, يا صوت نبي يبكي, يا رعدًا
في الزمن الأرضيِّ المتفجر حبّا, يا نار الإبداع.
لماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّاب ليترك هذي

الغابات طعامًا للنار? لماذا ترك الشعراء
خنادقهم? ولماذا سيف الدولة ولَّى الأدبار? الروم
أمامي كانوا وسوى الروم ورائي وأنا كنت أميل
على سيفي منتحرًا تحت الثلج وقبل أفول النجمِ
القطبيِّ وراء الأبراج. صرختُ: تعالوا!
لغتي صارت قنديلاً في باب الله, حياتي
فرَّت من بين يدي, صارت شكلاً والشكلُ
وجودًا. فخذوا تاج الشوك وسيفي
وخذوا راحلتي
قطراتِ المطر العالق في شَعْرِي
زهرةَ عباد الشمس الواضعةَ الخد على خدي
تذكارات طفولة حبي
كتبي, موتي
فسيبقى صوتي
قنديلاً في باب الله
**

 

وكاردينال وماركيز وسواهم.. كما أقيمت لي حفلات وأمسيات في عدد من دول العالم ومنحت خلالها بعض الجوائز.

* وكيف كان الشعر يتأتى في خضم هذه التحولات المكانية المختلفة؟ وما هو تأثير المنفى ومناخاته على روح الشاعر وشعره؟

= النفي لدي ليس بالجسد وحسب، بل هناك نفي أشد، هو الإحساس الداخلي بالنفي والشعور بالاستلاب، فقد أحسست بالنفي قبل حصول النفي نفسه، أي أنني أحسست بأني منفي منذ طفولتي، سواء في القرية أم في المدينة، واكتشفت أن العالم ما هو إلا منفى داخل منفى آخر، ولهذا عندما وجدت نفسي أمام النفي الحقيقي شعرت كأنما كنت أصعد سلماً معروفاً لي من قبل. أما الشعر فقد كانت له تجربة لا تنفصل عن تجربتي مع النفي، فقبيل مغادرتي العراق، كنت قد انتهيت من قصائد ديواني (المجد للأطفال والزيتون) وأرسلته بالبريد المسجل من بغداد إلى القاهرة، وكنت قد كتبت في إحدى قصائدي (أبحرت السفن، ما كان لم يكن) وهكذا كانت حياتي كلها محواً وكتابة، وكان مثلي مثل من يقوم بالفتح الروحي لمدينة أو قصيدة، وعندما يصل إليها يرى إنها ليست هي المدينة أو القصيدة، ولكن عندما أعود أرى ان كل شيء احترق وتحول إلى رماد (....) الشاعر كما أرى قد كتب عليه أن يعيش في متاهة ذات مئة باب، من غير نهاية سعيدة وربما تكون القصيدة هي وطن الشاعر، ولكن عن أية قصيدة نتحدث؟، هل نتحدث عن القصيدة الاولى أو الثانية أو العشرين أو المئة، أو القصيدة التي لم نكتبها بعد؟ من هذا نستخلص أن الشاعر يعيش بلا وطن..

* كيف تقيِّم المشروع الثقافي العربي وحركيته إزاء ما ينتاب الواقع السياسي من جمود وسكون مضى عليهما عقود من الزمن؟، وما هي مصبات التأثير في كلا الكيانين؟

= إن المرحلة التي تعيشها الثقافة العربية خلال هذه السنوات هي مرحلة تدمير لمكونات الثقافة وحقولها، وهذا التدمير أسهم فيه المثقف والسياسي على حد سواء (.....) والمدهش أن القوى السياسية كانت غافلة وما تزال عن واقعة أن تدمير الثقافة هو تدمير لما بقي في العالم العربي (....) لأن الفئات السياسية ليس لها رؤية مستقبلية، فأغلب حركات التغيير اقتصرت على الناحية السياسية فقط.. والسياسة استخدمت الثقافة وسيلة للتغيير وليس من أجل الحياة. حتى الثورة الروسية دفعت بالمثقفين إلى الصفوف الخلفية بعد انتصارها - وهذا ما فعلته أغلب الثورات في العالم الثالث - ولو استمر الكتاب في الصفوف الأولى لأدى الأمر إلى نتائج باهرة، وهذا يضعنا أمام قضية ميتافيزيقية هي حتمية وجود الشر وتأثيره على مسار الثورات الخيرة، أعتقد أن المعاناة التاريخية نصفها ميتافيزيقي، وهو بشكل خاص النصف غير الظاهر أو الوجه الآخر للقضية، ومن هنا فإن كثيراً من نضالات الشعوب تسقط عندما تحقق النصر، لأن القضية الميتافيزيقية انتهت، هذا ما حدث لثورة الجزائر أو الصين، سبّب انعدام وجود عقل مفكر لكينونة الثورة أو التغيير. وفيما يخص الوضع العربي على صعيده السياسي فإن السلطة الفلسطينية التي هي بلا زمان ولا مكان تمثل الوعي العربي في أقصى حالات تسيَّبه، فهو وعي بلا زمان ولا مكان، أي وعي مفرغ من مضمونه التاريخي، من مكوناته الحضارية، من أبعاده الثقافية والقومية، لقد قامت الحركات الوطنية في الأقطار العربية بمواجهات سياسية إقليمية مقطوعة عن الثقافة العربية، فصار الحكم العربي المعاصر يتصرف بشكل عفوي - إذا حذفنا سوء النية - بعيداً عن الدراسات الفكرية للواقع العربي، وهذا بدوره يؤدي إلى عدم تطور العقل العربي، لأن الدراسة لا تتطور إلا حين توضع على محك التجريب، وكان من المفترض أن يكون الفلاسفة وعلماء الاجتماع والعلوم، أساتذة للسياسيين العرب، لأن المثقفين قادرون على أن يفيدوا من إنجازات الغير، من دون أن يستسلموا لقوالبه الجامدة، في حين أن السياسي العربي يتنكر لمن سبقه، ويحاول أن يبدأ من الصفر، لهذا فلا تجد في البرامج السياسية العربية رؤية لمشروع قومي خالص يدمج الثقافة بالسياسة، والتراث الماضي بخطة المستقبل، فتحول العالم العربي إلى أسواق استهلاكية ومزارع للدواجن وأنهار من الدم، فكيف يمكن أن تقوم ثقافة عربية تقدمية جامعة في مثل هذه الحالة؟، العرب اليوم مصابون بتلوث الثقافة وبيئتها، أو بعطب فني يمنعهم من الإبداع الحضاري، وهذا ينطبق أول ما ينطبق على الإبداع الشعري، لإن الشعر متى فقد بعده الحضاري، صار بالتالي عديم الإنسانية، صار ثائراً بلا قضية، فهو ضد القيم كلها، وفي الوقت نفسه فهو ليس ضد شيء معين (....) إن الشاعر الآن يعاني من الإحباط المادي والروحي، والانقطاع الثقافي والفلسفي، لكن الشعر العربي المعاصر - ولا أقول الشاعر - يظل يواصل مسيرته من خلال بعض النماذج وبعض الشعراء، لإيجاد  نقاط ضوء جديدة ومراحل انتقال للخروج من هذه الأزمة التي هي ليست أزمة شعر بقدر ما هي أزمة حضارة.

* يرى أحد النقاد: (أن عقدة قتل الأب لدى الغربيين، تتحول عند الشرقيين عقدة لقتل الابن) هل ترى في هذه المقولة حقيقة تفسر ما يقوله شعراء الأجيال السابقة عن الأجيال التي تليهم أو عن مستقبل الشعر بوجه عام؟
= ليست هناك عمليات قتل لا للأب ولا للإبن، لأن المبدع الحقيقي يحتل منزلته منذ قصيدته الأولى، والشعراء المجيدون المبدعون أشبه بأشجار الغابة تقف كل شجرة منها إلى جانب أختها أو أمها أو أبيها وجميعها تطعم الجياع من ثمراتها ويستقبلون الشمس والريح والمطر و(.....) ومستقبل الشعر العربي يرتبط بالإبداع أولا، فالإبداع الحقيقي ليس بالأشكال الشعرية، فهو ليس مرتبطاً بالقصيدة العمودية أو بقصيدة النثر (.....) والقصيدة العظيمة    -كما أعتقد- هي عظيمة لا لأنها مكتوبة بشكل معين، بل لأن الشاعر الكبير يمتلك موهبة عظيمة، والمبدع الحقيقي يتخطى كل حدود الجغرافيا والتاريخ، ويحطم كل الأسوار والأقفاص والقيود ويكون مثلاً (...) إنني أؤمن بتعاقب الأجيال كما تتعاقب الفصول، وبأن نار الشعر لا تخبو، ولهذا 

فإن نار الخمسينات ظلت متقدة، وظل مشعل الشعر منذ تلك السنوات حتى الآن كشعلة (الأولمب) في أيدي الشعراء، يطوفون بها من قطر إلى آخر، ومن زمن إلى زمن آخر، لكنني احترس هنا فأقول: إن رفع بوابات السد أمام ماء الشعر لا يعني هذه الكثرة من الشعراء، التي تملأ الصحف والمجلات، ذلك أن الشعر الحقيقي نعمة نادرة، وهي لا تهبط من أحد على هذا الشاعر أو ذاك بركة أو هبة، بل إنها صعود إلى جبل الجلجلة وعذاب، وأن حمل صليب الشعر مهنة شاقة، وكما أن الشعر نعمة نادرة، فإن الشعراء المبدعين هم نعمة نادرة ايضاً، واستطيع أن أتخيل - الآن - وأنا أكتب هذه السطور بشأن سنوات الخمسينات ، لأرى أن عقد التسعينات يمتلئ بالصخب والعنف نفسيهما، اللذين كانا يسودان عقد الخمسينات، وكما أن تلك السنوات قد أفرزت قلة قليلة نادرة من الشعراء الحقيقين فأننا نرى الآن في التسعينات أن 
الشعراء الحقيقيين ما يزالون هم القلة القليلة النادرة، على الرغم من الصخب اليومي الإعلامي، وكثرة المنابر والمجلات والمهرجانات (...) وقد لا أبالغ إذا قلت أن أربعين عاماً من عمر الشعر العربي الحديث لم تنجب أكثر من عشرة شعراء حقيقيين، وهذه نسبة عالية وصحية، ذلك أن أحقاب الشعر العربي القديم لم تنجب هذا القدر.
***
 

"من قصائده"

قمري الحزينْ
(1)
البحر مات وغيّبت أمواجُهُ السوداء قلع السندبادْ
ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى
المبحوح عاد
والأفق كَفَّنَهُ الرمادْ
فَلِمَنْ تغنّي الساحراتْ ؟
والعشب فوق جبينه يطفو وتطفو دنيوات
كانت لنا فيها ، إذا غنى المغنّي ، ذكريات
غرقت جزيرتنا وما عاد الغناء
إلا بكاءْ
والقُبَّرَاتْ
طارت ، فيا قمري الحزين
الكنز في المجرى دفين
في آخر البستان ، تحت شجيرة الليمون ، خبأهُ هناك السندبادْ
لكنه خاوٍ ، وها أنَّ الرماد

والثلجَ والظلمات والأوراق تطمره وتطمر بالضباب الكائنات
أكذا نموت بهذه الأرض الخراب ؟
ويجفّ قنديلُ الطفولةِ في التراب ؟
أهكذا شمس النهار
تخبو وليس بموقد الفقراءِ نارْ ؟
(2)
مُدنٌ بلا فجرٍ تنامْ
ناديتُ باسمكَ في شوارعِها، فجاوبني الظلام
وسألتُ عنكَ الريحَ وهي تَئِنّ في قلبِ السكون
ورأيتُ وجهَكَ في المرايا والعيون
وفي زجاجِ نوافذِ الفجرِ البعيدْ
وفي بطاقاتِ البريدْ
مُدُنٌ بلا فجرٍ يُغطّيها الجليد
هجرتْ كنائسَهَا عصافيرُ الربيعْ
فَلِمَنْ تُغَنِّي ؟ والمقاهي أوصدتْ أبوابَهَا
وَلِمَنْ تُصَلِّي ؟ أيها القلبُ الصَّدِيع
والليلُ ماتْ

والمركبات
عادتْ بلا خيلٍ يُغَطِّيهَا الصَّقِيع
وسائقوها ميتون
أهكذا تمضي السنون ؟
ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ
نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ
فُقَرَاء ، يا قَمَرِي ، نَمُوت
وقطارُنا أبداً يَفُوت..
***
أولد وأحترق
(1)
تستيقظ (لارا) في ذاكرتي: قطًّا تتريًّا, يتربص بي, يتمطَّى, يتثاءب
يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم. أراها في قاع جحيم المدن
القطبية تشنقني بضفائرها وتعلقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدودًا في خيط دموعي.
أصرخ: (لارا) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) أعدو خلف الريح وخلف
قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى

.لا يدري أحد. أمضى تحت الثلج
وحيدًا, أبكي حبي العاثر في كل مقاهي العالم والحانات.
(2)
في لوحات (اللوفر) والأيقوناتْ
في أحزان عيون الملكات
في سحر المعبودات
كانت (لارا) تثوي تحت قناع الموت الذهبي وتحت شعاع النور الغارق في اللوحات
تدعوني, فأقرِّب وجهي منها, محمومًا أبكي
لكنَّ يدًا تمتد, فتمسح كل اللوحات وتخفي كل الأيقونات
تاركة فوق قناع الموت الذهبي بصيصًا من نورٍ لنهارٍ مات.
(3)
(لارا! رحلتْ)
(لارا! انتحرت)
قال البوَّاب وقالت جارتها, وانخرطت ببكاءٍ حارْ
قالت أخرى: (لا يدري أحد, حتى الشيطان).

(4)
أرمي قنبلة تحت قطار الليل المشحون بأوراق خريف
في ذاكرتي, أزحف بين الموتى, أتلمس دربي في
أوحال حقولٍ لم تحرث, أستنجد بالحرس الليلى
لأوقف في ذاكرتي هذا الحب المفترس الأعمى, هذا
النور الأسود, محمومًا تحت المطر المتساقط
أطلق في الفجر على نفسي النارْ.

(5)
منفيًّا في ذاكرتي
محبوسًا في الكلماتْ
أشرد تحت الأمطارْ أصرخ: (لارا!)
أصرخ: (لارا!)
فتجيب الريح المذعورة: (لارا!).
(6)
في قصر الحمراء
في غرفات حريم الملك الشقراوات

أسمع عودًا شرقيًّا وبكاء غزال
أدنو مبهورًا من هالات الحرف العربي المضفور بآلاف الأزهار
أسمع آهات
كانت (لارا) تحت الأقمار السبعة والنور الوهاج
تدعوني فأقرِّب وجهي منها, محمومًا أبكي,
لكنَّ يدًا تمتد, فتقذفني في بئر الظلماتْ
تاركة فوق السجادة قيثاري وبصيصًا من نور لنهارٍ ماتْ.
(7)
(لم تترك عنوانًا) قال مدير المسرح وهو يَمُطُّ الكلمات.

(8)
تسقط في غابات البحر الأسود أوراق الأشجارْ
تنطفئ الأضواء ويرتحل العشاق
وأظل أنا وحدي, أبحث عنها, محمومًا أبكي تحت الأمطار.
(9)
أصرخ: (لارا!) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) في كوخ الصياد.
(10)
أرسم صورتها فوق الثلج, فيشتعل اللون الأخضر في عينيها 

والعسليُّ
الداكن, يدنو فمها الكرزيُّ الدافئُ من وجهي,
تلتحم الأيدي بعناق
أبدي, لكنَّ يدًا تمتدُّ, فتمسح صورتها, 
تاركة فوق اللون المقتول
بصيصًا من نورٍ لنهارٍ ماتْ
(11)
شمس حياتي غابت. لا يدري أحد. الحب وجود أعمى ووحيد
. ما من أحدٍ يعرف في هذا المنفى أحدًا. الكل وحيدٌ. قلب العالم من حجرٍ في هذا المنفى – الملكوتْ...
أكتشفُ الأنفاقَ الحجريةَ في روحي
والمنفى والنارْ
ومقابرَ بغداد.
أكتشفُ اللوحَ المحفوظْ
والمقبوسَ المسماريَّ النابضَ في جدل الروحْ.
**


الموت والقنديل
(1)
صيحاتك كانت فأس الحطَّاب الموغل في
غابات اللغة العذراء, وكانت ملكًا أسطوريًّا
يحكم في مملكة العقل الباطن والأصقاع
الوثنية حيث الموسيقى والسحر الأسود
والجنس وحيث الثورة والموت . قناع الملك
الأسطوري الممتقع الوجه وراء زجاج نوافذ
قصر الصيف وكانت عربات الحرب
الآشورية تحت الأبراج المحروقة كانت
صيحاتك صوت نبيٍّ يبكي تحت الأسوار
المهدومة شعبًا مستلبًا مهزومًا كانت برقًا
أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الربات .
وقاع الآبار المهجورة كانت صيحاتك
صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية
أرحل تحت الثلج أواصل موتي (...) حيث
الموسيقى والثورة والحب وحيث الله.

(2)
لغة الأسطورةْ
تسكن في فأس الحطَّاب الموغل في غابات اللغة العذراء
فلماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّابْ?
(3)
مات مغني الأزهار البريةِ
مات مغني النار
مات مغني عربات الحرب الآشورية تحت الأسوار.
(4)
صيحاتك كانت صيحاتي
فلماذا نتبارى في هذا المضمار?
فسباق البشر الفانين, هنا, أتعبني
وصراع الأقدار.
(5)
كان الروم أمامي وسوى الروم ورائي,
وأنا كنتُ أميل على سيفي منتحرًا تحت الثلج,
وقبل أفول النجم القطبيِّ وراء الأبراجْ
فلماذا سيف الدولة ولَّى الأدبارْ?

(6)
ها أنذا عارٍ عُري سماء الصحراءِ
حزينٌ حزنَ حصانٍ غجريٍّ
مسكونٌ بالنارْ.
(7)
وطني المنفى
منفايَ الكلماتْ.
(8)
صار وجودي شكلاً
والشكل وجودًا في اللغة العذراءْ.
(9)
لغتي صارت قنديلاً في باب الله.
(10)
أرحل تحت الثلج, أواصل موتي في الأصقاعْ.
(11)
أيتها الأشجار القطبية, يا صوت نبي يبكي, يا رعدًا
في الزمن الأرضيِّ المتفجر حبّا, يا نار الإبداع.
لماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّاب ليترك هذي

الغابات طعامًا للنار? لماذا ترك الشعراء
خنادقهم? ولماذا سيف الدولة ولَّى الأدبار? الروم
أمامي كانوا وسوى الروم ورائي وأنا كنت أميل
على سيفي منتحرًا تحت الثلج وقبل أفول النجمِ
القطبيِّ وراء الأبراج. صرختُ: تعالوا!
لغتي صارت قنديلاً في باب الله, حياتي
فرَّت من بين يدي, صارت شكلاً والشكلُ
وجودًا. فخذوا تاج الشوك وسيفي
وخذوا راحلتي
قطراتِ المطر العالق في شَعْرِي
زهرةَ عباد الشمس الواضعةَ الخد على خدي
تذكارات طفولة حبي
كتبي, موتي
فسيبقى صوتي
قنديلاً في باب الله

 

قلت أن أربعين عاماً من عمر الشعر العربي الحديث لم تنجب أكثر من عشرة شعراء حقيقيين، وهذه نسبة عالية وصحية، ذلك أن أحقاب الشعر العربي القديم لم تنجب هذا القدر.
***
 

"من قصائده"

قمري الحزينْ
(1)
البحر مات وغيّبت أمواجُهُ السوداء قلع السندبادْ
ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى
المبحوح عاد
والأفق كَفَّنَهُ الرمادْ
فَلِمَنْ تغنّي الساحراتْ ؟
والعشب فوق جبينه يطفو وتطفو دنيوات
كانت لنا فيها ، إذا غنى المغنّي ، ذكريات
غرقت جزيرتنا وما عاد الغناء
إلا بكاءْ
والقُبَّرَاتْ
طارت ، فيا قمري الحزين
الكنز في المجرى دفين
في آخر البستان ، تحت شجيرة الليمون ، خبأهُ هناك السندبادْ
لكنه خاوٍ ، وها أنَّ الرماد

والثلجَ والظلمات والأوراق تطمره وتطمر بالضباب الكائنات
أكذا نموت بهذه الأرض الخراب ؟
ويجفّ قنديلُ الطفولةِ في التراب ؟
أهكذا شمس النهار
تخبو وليس بموقد الفقراءِ نارْ ؟
(2)
مُدنٌ بلا فجرٍ تنامْ
ناديتُ باسمكَ في شوارعِها، فجاوبني الظلام
وسألتُ عنكَ الريحَ وهي تَئِنّ في قلبِ السكون
ورأيتُ وجهَكَ في المرايا والعيون
وفي زجاجِ نوافذِ الفجرِ البعيدْ
وفي بطاقاتِ البريدْ
مُدُنٌ بلا فجرٍ يُغطّيها الجليد
هجرتْ كنائسَهَا عصافيرُ الربيعْ
فَلِمَنْ تُغَنِّي ؟ والمقاهي أوصدتْ أبوابَهَا
وَلِمَنْ تُصَلِّي ؟ أيها القلبُ الصَّدِيع
والليلُ ماتْ

والمركبات
عادتْ بلا خيلٍ يُغَطِّيهَا الصَّقِيع
وسائقوها ميتون
أهكذا تمضي السنون ؟
ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ
نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ
فُقَرَاء ، يا قَمَرِي ، نَمُوت
وقطارُنا أبداً يَفُوت..
***
أولد وأحترق
(1)
تستيقظ (لارا) في ذاكرتي: قطًّا تتريًّا, يتربص بي, يتمطَّى, يتثاءب
يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم. أراها في قاع جحيم المدن
القطبية تشنقني بضفائرها وتعلقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدودًا في خيط دموعي.
أصرخ: (لارا) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) أعدو خلف الريح وخلف
قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى

.لا يدري أحد. أمضى تحت الثلج
وحيدًا, أبكي حبي العاثر في كل مقاهي العالم والحانات.
(2)
في لوحات (اللوفر) والأيقوناتْ
في أحزان عيون الملكات
في سحر المعبودات
كانت (لارا) تثوي تحت قناع الموت الذهبي وتحت شعاع النور الغارق في اللوحات
تدعوني, فأقرِّب وجهي منها, محمومًا أبكي
لكنَّ يدًا تمتد, فتمسح كل اللوحات وتخفي كل الأيقونات
تاركة فوق قناع الموت الذهبي بصيصًا من نورٍ لنهارٍ مات.
(3)
(لارا! رحلتْ)
(لارا! انتحرت)
قال البوَّاب وقالت جارتها, وانخرطت ببكاءٍ حارْ
قالت أخرى: (لا يدري أحد, حتى الشيطان).

(4)
أرمي قنبلة تحت قطار الليل المشحون بأوراق خريف
في ذاكرتي, أزحف بين الموتى, أتلمس دربي في
أوحال حقولٍ لم تحرث, أستنجد بالحرس الليلى
لأوقف في ذاكرتي هذا الحب المفترس الأعمى, هذا
النور الأسود, محمومًا تحت المطر المتساقط
أطلق في الفجر على نفسي النارْ.

(5)
منفيًّا في ذاكرتي
محبوسًا في الكلماتْ
أشرد تحت الأمطارْ أصرخ: (لارا!)
أصرخ: (لارا!)
فتجيب الريح المذعورة: (لارا!).
(6)
في قصر الحمراء
في غرفات حريم الملك الشقراوات

أسمع عودًا شرقيًّا وبكاء غزال
أدنو مبهورًا من هالات الحرف العربي المضفور بآلاف الأزهار
أسمع آهات
كانت (لارا) تحت الأقمار السبعة والنور الوهاج
تدعوني فأقرِّب وجهي منها, محمومًا أبكي,
لكنَّ يدًا تمتد, فتقذفني في بئر الظلماتْ
تاركة فوق السجادة قيثاري وبصيصًا من نور لنهارٍ ماتْ.
(7)
(لم تترك عنوانًا) قال مدير المسرح وهو يَمُطُّ الكلمات.

(8)
تسقط في غابات البحر الأسود أوراق الأشجارْ
تنطفئ الأضواء ويرتحل العشاق
وأظل أنا وحدي, أبحث عنها, محمومًا أبكي تحت الأمطار.
(9)
أصرخ: (لارا!) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) في كوخ الصياد.
(10)
أرسم صورتها فوق الثلج, فيشتعل اللون الأخضر في عينيها 

والعسليُّ
الداكن, يدنو فمها الكرزيُّ الدافئُ من وجهي,
تلتحم الأيدي بعناق
أبدي, لكنَّ يدًا تمتدُّ, فتمسح صورتها, 
تاركة فوق اللون المقتول
بصيصًا من نورٍ لنهارٍ ماتْ
(11)
شمس حياتي غابت. لا يدري أحد. الحب وجود أعمى ووحيد
. ما من أحدٍ يعرف في هذا المنفى أحدًا. الكل وحيدٌ. قلب العالم من حجرٍ في هذا المنفى – الملكوتْ...
أكتشفُ الأنفاقَ الحجريةَ في روحي
والمنفى والنارْ
ومقابرَ بغداد.
أكتشفُ اللوحَ المحفوظْ
والمقبوسَ المسماريَّ النابضَ في جدل الروحْ.
**


الموت والقنديل
(1)
صيحاتك كانت فأس الحطَّاب الموغل في
غابات اللغة العذراء, وكانت ملكًا أسطوريًّا
يحكم في مملكة العقل الباطن والأصقاع
الوثنية حيث الموسيقى والسحر الأسود
والجنس وحيث الثورة والموت . قناع الملك
الأسطوري الممتقع الوجه وراء زجاج نوافذ
قصر الصيف وكانت عربات الحرب
الآشورية تحت الأبراج المحروقة كانت
صيحاتك صوت نبيٍّ يبكي تحت الأسوار
المهدومة شعبًا مستلبًا مهزومًا كانت برقًا
أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الربات .
وقاع الآبار المهجورة كانت صيحاتك
صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية
أرحل تحت الثلج أواصل موتي (...) حيث
الموسيقى والثورة والحب وحيث الله.

(2)
لغة الأسطورةْ
تسكن في فأس الحطَّاب الموغل في غابات اللغة العذراء
فلماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّابْ?
(3)
مات مغني الأزهار البريةِ
مات مغني النار
مات مغني عربات الحرب الآشورية تحت الأسوار.
(4)
صيحاتك كانت صيحاتي
فلماذا نتبارى في هذا المضمار?
فسباق البشر الفانين, هنا, أتعبني
وصراع الأقدار.
(5)
كان الروم أمامي وسوى الروم ورائي,
وأنا كنتُ أميل على سيفي منتحرًا تحت الثلج,
وقبل أفول النجم القطبيِّ وراء الأبراجْ
فلماذا سيف الدولة ولَّى الأدبارْ?

(6)
ها أنذا عارٍ عُري سماء الصحراءِ
حزينٌ حزنَ حصانٍ غجريٍّ
مسكونٌ بالنارْ.
(7)
وطني المنفى
منفايَ الكلماتْ.
(8)
صار وجودي شكلاً
والشكل وجودًا في اللغة العذراءْ.
(9)
لغتي صارت قنديلاً في باب الله.
(10)
أرحل تحت الثلج, أواصل موتي في الأصقاعْ.
(11)
أيتها الأشجار القطبية, يا صوت نبي يبكي, يا رعدًا
في الزمن الأرضيِّ المتفجر حبّا, يا نار الإبداع.
لماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّاب ليترك هذي

الغابات طعامًا للنار? لماذا ترك الشعراء
خنادقهم? ولماذا سيف الدولة ولَّى الأدبار? الروم
أمامي كانوا وسوى الروم ورائي وأنا كنت أميل
على سيفي منتحرًا تحت الثلج وقبل أفول النجمِ
القطبيِّ وراء الأبراج. صرختُ: تعالوا!
لغتي صارت قنديلاً في باب الله, حياتي
فرَّت من بين يدي, صارت شكلاً والشكلُ
وجودًا. فخذوا تاج الشوك وسيفي
وخذوا راحلتي
قطراتِ المطر العالق في شَعْرِي
زهرةَ عباد الشمس الواضعةَ الخد على خدي
تذكارات طفولة حبي
كتبي, موتي
فسيبقى صوتي
قنديلاً في باب الله