loader
MaskImg

حوارات

الشاعر و الإعلامي اللبناني زاهي وهبي لنخيل عراقي :- كثافة الضوء التي تُسلَّط على الإعلامي تحجب صورة الشاعر.

breakLine

 

 

حوار خاص بوكالة نخيل عراقي

 


هو شاعرٌ و إعلامي أو هو إعلامي وشاعر ،التقديم و التأخير بين الصفتين يقربنا أكثر منه فبالرغم من اعترافه بأن عمله في الإعلام ساهم بتوسيع رقعته الشعرية و جعله على اتصال دائم بالفن والحياة أو بالجمال في معظم وجهاته إلا أنه يبقى شاعراً في النهاية شاعرٌ حتى وهو يعدّ الأسئلة ويختار الضيوف وهو يعيش و يتجول و يتأمل فالشعر سلوكه الفطري و نقطة انطلاقه لفهم ذاته و العالم .


إنه الشاعر و الإعلامي اللبناني زاهي وهبي الذي آثرنا في نخيل عراقي أن نقترب من عوالمه فأجرينا معه هذا الحوار::--

 


س/ما هو مفهومك عن الشعر؟ و هل أثرت التكنولوجيا على كتابتك الشعرية ؟

-الشِّعر محاولة لسبر أغوار الوجود، وإعادة تشكيل العالم من جديد. هو الملاذ من القبح والبشاعة، والضوء الذي ينير ظلمة هذا الزمن الاستهلاكي المغرق في التفاهة والسطحية. الشِّعر محاولة النفاذ إلى عمق الحياة، واكتشاف جوهر الأشياء، واستنباط معنى جديد للعيش على كوكب أفسده بنوه خصوصاً مَن تبوأ بينهم منصباً وموقع قرار.
الشِّعر من أكثر الفنون تأثيراً في الإنسان. حتى أولئك الذين يظنون أن لا علاقة جيدة تربطهم بالشِّعر يصلهم بطريقة غير مباشرة من خلال الأغاني والأفلام والروايات وسواها. الشِّعر مادة أولية خام موجودة في الحياة نفسها، وفي الوجدان الإنسان العميق، رافقت الكائن البشري منذ بدأ يتحسّس وجوده الروحي والعاطفي والفكري الأبعد من الوجود المادي الجسدي. وإلا ماذا نسمّي ملحمة جلجامش ونشيد الأناشيد وكل ما تركه أسلافنا الأوائل في الذاكرة الجماعية والتاريخ البشري؟ الشِّعر من مكونات الحياة الأولى، وما القصيدة بأشكالها المختلفة، إلا وعاء من أوعية الشعر الكثيرة. لذا من البديهي والطبيعي أن أؤمن به وأبشّر، هو أرقى وسائل الدفاع عن الإنسان والانتصار لحقه في الحياة الحرة الكريمة. معظم شعري يتمحور حول هذه النقطة بالذات، على المستويين الفردي والجماعي، الخاص والعام.
أما تأثير التكنولوجيا الحديثة فيتجلى في مَيلي مؤخراً إلى كتابة نصوص قصيرة، وما يسمّى الومضات الشعرية القائمة على التكثيف والاختزال، الأشبه من حيث الشكل بالهايكو الياباني لكن بصياغة ومضامين مختلفة. 
إيقاع الحياة السريع، وكثرة الهموم الملقاة على عاتق الإنسان المعاصر، تفرض علينا أساليب جديدة مع التأكيد على عدم الوقوع في الاستهلاكية والمجانية التي وقعت فيها فنون كثيرة.

 

س/ ما الذي وهبهُ الإعلام لتجربتك الشعرية؟

-لا شك في أن عملي التلفزيوني ساهم في شهرتي الشعرية. لستُ ممن يتنكرون لهذه الحقيقة، لكن لو كان الأمر متعلقاً فقط بالشهرة الإعلامية لكان الناس أتوا إليَّ مرة، مرتين، ثلاثاً ثم أنصرفوا عني. 
أثق بأنني استطعت إقامة علاقة حميمة وطيدة وجميلة مع القراء، أولاً من خلال النصّ الشعري نفسه الذي يحكي أفكارهم وأحلامهم وآمالهم وآلامهم، ويحاكي مشاعرهم وعواطفهم وما يعتمل في وجدانهم، وكثيراً ما يقال لي هذا الأمر. وثانياً من خلال التواصل اليومي عبر منصات التواصل الاجتماعي التي فتحت مجالًا واسعاً لإقامة علاقة حقيقية مباشرة مع القراء من دون الحاجة إلى أي وسيط. هذه العلاقة مع القراء الذين أُفضِّل تسميتهم بالأصدقاء تتراكم وتتطور وتنضج وتصبح أكثر عمقاً وصدقاً. ويسعدني أن أمسياتي في مختلف العواصم والمدن العربية تشهد إقبالاً وحضوراً، وإصغاءً وتفاعلاً جميلين. 
من ناحية ثانية، كثافة الضوء التي تُسلَّط على الإعلامي تحجب صورة الشاعر أو تجعلها تتراجع إلى الخلف. فضلاً عن كون بعض الشعراء والنقاد يقعون في فخ إحالة أي نجاح يحققه الشاعر/الإعلامي إلى الإعلام والشهرة التي يوفرها للعاملين فيه، قافزين فوق تجربة الشاعر وما يبذله من اشتغال على نصوصه.

 

س/ ما الصفة التي تفضل أن يتم تعريفك بها؟

-ثمة روافد كثيرة تصبّ في مياه النهر التي متى امتزجت في المجرى الكبير لا نعود قادرين على التفريق بينها، كذلك حال الإنسان مع الروافد التي تشكّل شخصيته وحياته في مجرى العمر. كل عمل يؤديه الإنسان يضيف إليه ويساهم في تكوينه الروحي والفكري والوجداني. الشِّعر رافد أساسي، الإعلام رافد، تجارب الحياة المختلفة روافد. لكن إذا كان السؤال إلزامياً ولا مفرّ من الإجابة عليه. فالشاعر هي الصفة الأحب إلى نفسي. 
الإعلام مهنتي. شاشة التلفزيون شاشة جماعية أحاول من خلالها إرضاء أذواق متنوعة وشرائح اجتماعية مختلفة. الشِّعر حياتي والورقة البيضاء شاشتي الذاتية التي لا أسعى، حين أبثّها ما يجول في خاطري، إلى مراضاة أحد سوى القصيدة نفسها. فالقصيدة عندي، لحظة كتابتها، هي غاية بذاتها لا وسيلة. أما حين نشرها على الملأ يختلف الأمر، النشر يلزمه طرفان: الكاتب والقارئ. الكتاب الذي يوضع على الرف ولا يُقرأ هو كتاب ميت أو تابوت كلمات.

 

س/ إلى أي حدٍ يمكنك اعتبار الأدب سلوكاً لا هواية فحسب؟

- طبعاً هو سلوك أولاً، ونمط حياة لا مجرد حبر على ورق. أؤمن بضرورة التماهي بين الكاتب ونصّه.
وفي حالة الشِّعر، يغدو الأمر أكثر إلحاحاً. لا نحكي هنا عن الشاعر النظّام، أو الشاعر الذي يكتب بناء على "ما يطلبه المستمعون"، بل نعني شاعر الحياة الذي تولد قصيدته من رحم الصدق مع الذات أولاً ثم مع المتلقي سواء كان المتلقي قارئًا أو مستمعاً. الشاعر الذي تتشكّل القصيدة في عقله ووجدانه مثلما يتشكّل الجنين في رحم أمه، الشاعر الذي يعاني مخاض القصيدة مثلما تعاني كل ولّادة!
ثمة شاعر يمتهن الشعر، ثمة شاعر يحيا الشعر، وشتان ما بين الشاعرين. شاعر المهنة يكتب بناء على الطلب والمناسبة، ويصير أشبه بالحرفيين الذين يصنعون حرفهم في سبيل نيل رضا الزبائن. أما شاعر الحياة فيحيا شاعراً، أي أن الشعر لديه أعمق وأسمى من أن يكون مجرد قصيدة تُكتب أو كتاب يُنشر. الشِّعر لدى هذا الشاعر نمط حياة وأسلوب عيش، وطريقة تعامل مع الوجود والكائنات.

س/ أي التجارب الشعرية التي تتابعها بحرص شديد؟

-أتابع كل ما يقع بين يدي من منشورات شعرية. لحسن الحظ وبسبب طبيعة عملي تصلني من دور النشر معظم الإصدارات الجديدة. وتهمني دائماً متابعة الأصوات الشعرية الجديدة والشابة. لكني أعود دائماً إلى شاعري الأثير محمود درويش الذي أعيد قراءته مراراً وتكراراً، وفي كل مرة أكتشف جديدًا لديه. وأشعر أنه لا يزال حياً بيننا وفينا.
وأود التأكيد على مسألة في غاية الأهمية: لا كتابة من دون قراءة. الكاتب الجيد هو قارئ جيد أولاً.

 

س/ لِمَنْ تكتب؟

- ‏للباحثين عن معنى، وأنا أفقرهم اليه.
‏لماذا تكتب؟
‏لأُولَدَ مراتٍ ومرات
‏متى تكتب؟
‏حين يغلبُني الشوق.
لعل هذه التغريدة التي نشرتها يوماً على صفحتي في منصة أكس تختصر نظرتي للكتابة ومبعثها. ولنقل، بمعنى آخر، إنني أكتب لأحيا. فالكتابة أوكسيجين، لا سيما في زمن الاختناق وفقدان المعنى وتزييف الوعي وتفخيخ المصطلحات والمفاهيم. أكتب كي أكتشف معنى الوجود، وأفهم أكثر قيمة الحياة التي قال عنها يوماً الشاعر ناظم حكمت إنها "جميلة يا صاحبي". فجمال الحياة لا يمكن أن يكتمل من دون الأدب والفنّ. صحيح، الحُبّ أجمل من الكتابة عن الحُبّ، والقبلة أمتع من مجازها، والأنوثة لغة تمشي على الأرض. لكن أهمية القصيدة أنها تخلّد الحُبّ، وتؤبّد لحظة القبلة، وتسمو بالأنوثة، وبكل أمر في هذه الحياة. وأهم ما فيها أنها حياة متجدّدة وولادة دائمة. كل كلمة جديدة، كل جملة، كل قصيدة، هي بمثابة ولادة جديدة.
أكتب كي أحيا حقاً، كي لا أكون مجرد كائن غرائزي في هذا العالم الشرس، وأكتب كي أنجو من الضجر والسأم، ومن الوقوع في فخ السهولة والاستهلاك أو في براثن الضغينة والبغضاء. فالقصيدة هي خط دفاع أول عن معنى الحياة.
وفي تغريدة أخرى كتبت:
‏لا القصائد تُوقِفُ حرباً، لا الأغاني تُرجِعُ الغائبين. نكتبُ لِنَحيا.
إذاً، أكتب لأحيا. الكتابة رئتاي. لولا الحبر لَمتُّ اختناقاً في عالمٍ يُسلِّع كل شيء. ومن حُسن حظنا أن الشِّعر الحقيقي لا يصلح كسلعة.

 

س/ هل يمكنك اعتبار الشعر عزاءً في ظل ظروفنا الراهنة ؟

- طبعاً هو عزاء، يخفّف وطأة العيش ويُبَلسِم الجراح. على سبيل المثال: في كل لحظة مفصلية من حياة وطنهم يستعيد اللبنانيون قصائد الأخوين الرحباني بصوت فيروز، الصوت الذي رافق الناس بشاعريته في عزّ لحظات الحرب دموية وعنفاً، وكان ضمادةً لجراح وبلسماً لأوجاع. وما الذي كان يحمله إلينا ذاك الصوت سوى الشِّعر في أبهى تجلياته لدى الأخوين الرحباني وسواهما ممن أعطوا فيروز عصارة قصائدهم.
لكن لا يمكن فصل حال الشِّعر عن حال الفنّ والأدب عموماً. ففي لحظات التقدم والازدهار ووجود مشروع مُبشِّر وجامع تنهض الفنون والآداب وتنهض معها الذائقة العامة. جميعنا يعرف كم غنت أم كلثوم وفيروز وسواهما من قصائد عصماء ساهمت في ارتقاء تلك الذائقة. في المقابل، زمن التراجع والانحطاط يغدو مسار الذائقة العامة انحدارياً. تتراجع الفنون الراقية وتتقدم الفنون التجارية والاستهلاكية كما هو حاصل الآن، لكن هذا المسار لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. تمرّ البشرية حالياً بمخاض عسير، ودمويّ في كثير من محطاته، لا بد أن تنجم عنه ولادة جديدة ومتجددة، تحمل بشائرَ خلاصٍ مما نحن فيه، وهنا تكمن أهمية الشِّعر خصوصاً حين يُبشّر بالأمل والخلاص ولا يكتفي بالندب والرثاء. ، فالكتابة عموماً،(والشِّعر خصوصاً) ليس فقط أن تُبشِّرَ الصابرين على جمر انتظاراتهم بأن الصبحَ قريب. بل أيضاً أن تُقرِّبَ هذا الصبح أو تبتكره.
أحياناً كثيرة لا يبدو تأثير الشِّعر مباشراً وجلياً، لأن القصيدة الحقة تتسلل مثل النعاس إلى النفس، وتترسب في أعماق الوعي. وغالباً ما يكون الأثر الأولي للشعر أثراً فردياً، بمعنى أنه يصلنا أولاً كأفراد قبل أن يولّد نوعاً من الأثر الجماعي، خصوصاً متى كان صادراً عن شعراء لم يركنوا فقط إلى مشاغلهم الفردية، بل انشغلوا أيضاً بالهموم الجماعية وعبّروا عنها وبشّروا بالخلاص منها. ألا تلاحظ أن قصائد أمل دنقل، مظفر النواب، محمود درويش، أحمد فؤاد نجم وسواهم تتردد دائماً على ألسنة الناس خصوصاً في اللحظات الحاسمة، في أزقة فلسطين، في ميدان التحرير في مصر، في هتافات الشباب في شوارع بغداد، وسواها من عواصم ومدن.
كل هذا يعني أن الشِّعر هو العزاء الأمثل، سواء كان على مستوى الفرد أو مستوى الجماعة.


س/ في حياة كل شاعر نص يبحث عنهُ هل وصلت إلى نصك و ما أقرب قصائدك التي تعود لها دائماً؟

- الشاعر الذي يعيش قناعة الوصول يحكم على نفسه بالموت. الحياة نفسها لا تكتمل بغير الموت. فما بالك بالنصّ الشعري. الشِّعر عملية بحث دائمة، ومسير لا نهاية له. أتفق مع غادة السمّان حين أصدرت أعمالها تحت عنوان "الأعمال غير الكاملة"، لأن أعمال الكاتب لا تكتمل إلا برحيله، أو على الأقل باعتزاله الكتابة. لذا لا أعتقد أنني سوف أصل يوماً إلى نصّي المُشتهَى، لأن عدم الوصول هو أهم حافز لمواصلة الكتابة.
من نصوصي الأحبّ: منديلها البحيرة صوتها المساء(أمي)، دمية روسية، ليلة مقتل لوركا، يعرفكِ مايكل أنجلو، أقلام محمود درويش، أضاهيكِ أنوثة، ونشيد الحُبّ والأمل.

 

س/ كلمة تقولها كرسالة لهؤلاء الذين يتحدثون دائماً عن كساد الشعر ؟

-يبقى الشِّعر ويبقى الشعراء ما بقيَ الإنسان وما بقيت الحياة، ما بقيَ الحب والشوق والتضحية والفداء، وما بقيت المشاعر الإنسانية على اختلافها وتضادّها. ولئن لم نقرأ الشِّعر في القصيدة، نسمعه عبر أغنية راقية، نعثر عليه بين أسطر رواية، نراه في مشاهَد فيلم سينمائي، والأهم نلقاه في ثنايا الحياة نفسها، في لحظات اللقاء والوداع والفرح والحزن، وفي كل ما يعتمل داخل النفس البشرية. فالشِّعر ليس فقط قصيدة تُكتَب أو كتاباً يُنشَر ويُقرأ. الشِّعر(كما أسلفنا) نمط حياة، أسلوب عيش، نظرة إلى الوجود، وطريقة تعامل مع الآخرين والكائنات. الشِّعر حياة والحياة لا تكسد ولا تفسد طالما هناك مَن ينتصر لجوهرها ومعناها، والشعراء في الطليعة دائمًا.
إذاً، أكتب لأحيا. الكتابة رئتاي. لولا الحبر لَمتُّ اختناقاً في عالمٍ يُسلِّع كل شيء. ومن حُسن حظنا أن الشِّعر الحقيقي لا يصلح كسلعة.

س/ هل يمكنك اعتبار الشعر عزاءً في ظل ظروفنا الراهنة ؟
طبعاً هو عزاء، يخفّف وطأة العيش ويُبَلسِم الجراح. على سبيل المثال: في كل لحظة مفصلية من حياة وطنهم يستعيد اللبنانيون قصائد الأخوين الرحباني بصوت فيروز، الصوت الذي رافق الناس بشاعريته في عزّ لحظات الحرب دموية وعنفاً، وكان ضمادةً لجراح وبلسماً لأوجاع. وما الذي كان يحمله إلينا ذاك الصوت سوى الشِّعر في أبهى تجلياته لدى الأخوين الرحباني وسواهما ممن أعطوا فيروز عصارة قصائدهم.
لكن لا يمكن فصل حال الشِّعر عن حال الفنّ والأدب عموماً. ففي لحظات التقدم والازدهار ووجود مشروع مُبشِّر وجامع تنهض الفنون والآداب وتنهض معها الذائقة العامة. جميعنا يعرف كم غنت أم كلثوم وفيروز وسواهما من قصائد عصماء ساهمت في ارتقاء تلك الذائقة. في المقابل، زمن التراجع والانحطاط يغدو مسار الذائقة العامة انحدارياً. تتراجع الفنون الراقية وتتقدم الفنون التجارية والاستهلاكية كما هو حاصل الآن، لكن هذا المسار لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. تمرّ البشرية حالياً بمخاض عسير، ودمويّ في كثير من محطاته، لا بد أن تنجم عنه ولادة جديدة ومتجددة، تحمل بشائرَ خلاصٍ مما نحن فيه، وهنا تكمن أهمية الشِّعر خصوصاً حين يُبشّر بالأمل والخلاص ولا يكتفي بالندب والرثاء. ، فالكتابة عموماً،(والشِّعر خصوصاً) ليس فقط أن تُبشِّرَ الصابرين على جمر انتظاراتهم بأن الصبحَ قريب. بل أيضاً أن تُقرِّبَ هذا الصبح أو تبتكره.
أحياناً كثيرة لا يبدو تأثير الشِّعر مباشراً وجلياً، لأن القصيدة الحقة تتسلل مثل النعاس إلى النفس، وتترسب في أعماق الوعي. وغالباً ما يكون الأثر الأولي للشعر أثراً فردياً، بمعنى أنه يصلنا أولاً كأفراد قبل أن يولّد نوعاً من الأثر الجماعي، خصوصاً متى كان صادراً عن شعراء لم يركنوا فقط إلى مشاغلهم الفردية، بل انشغلوا أيضاً بالهموم الجماعية وعبّروا عنها وبشّروا بالخلاص منها. ألا تلاحظ أن قصائد أمل دنقل، مظفر النواب، محمود درويش، أحمد فؤاد نجم وسواهم تتردد دائماً على ألسنة الناس خصوصاً في اللحظات الحاسمة، في أزقة فلسطين، في ميدان التحرير في مصر، في هتافات الشباب في شوارع بغداد، وسواها من عواصم ومدن.
كل هذا يعني أن الشِّعر هو العزاء الأمثل، سواء كان على مستوى الفرد أو مستوى الجماعة.


س/ في حياة كل شاعر نص يبحث عنهُ هل وصلت إلى نصك و ما أقرب قصائدك التي تعود لها دائماً؟
الشاعر الذي يعيش قناعة الوصول يحكم على نفسه بالموت. الحياة نفسها لا تكتمل بغير الموت. فما بالك بالنصّ الشعري. الشِّعر عملية بحث دائمة، ومسير لا نهاية له. أتفق مع غادة السمّان حين أصدرت أعمالها تحت عنوان "الأعمال غير الكاملة"، لأن أعمال الكاتب لا تكتمل إلا برحيله، أو على الأقل باعتزاله الكتابة. لذا لا أعتقد أنني سوف أصل يوماً إلى نصّي المُشتهَى، لأن عدم الوصول هو أهم حافز لمواصلة الكتابة.
من نصوصي الأحبّ: منديلها البحيرة صوتها المساء(أمي)، دمية روسية، ليلة مقتل لوركا، يعرفكِ مايكل أنجلو، أقلام محمود درويش، أضاهيكِ أنوثة، ونشيد الحُبّ والأمل.

 

س/ كلمة تقولها كرسالة لهؤلاء الذين يتحدثون دائماً عن كساد الشعر ؟
يبقى الشِّعر ويبقى الشعراء ما بقيَ الإنسان وما بقيت الحياة، ما بقيَ الحب والشوق والتضحية والفداء، وما بقيت المشاعر الإنسانية على اختلافها وتضادّها. ولئن لم نقرأ الشِّعر في القصيدة، نسمعه عبر أغنية راقية، نعثر عليه بين أسطر رواية، نراه في مشاهَد فيلم سينمائي، والأهم نلقاه في ثنايا الحياة نفسها، في لحظات اللقاء والوداع والفرح والحزن، وفي كل ما يعتمل داخل النفس البشرية. فالشِّعر ليس فقط قصيدة تُكتَب أو كتاباً يُنشَر ويُقرأ. الشِّعر(كما أسلفنا) نمط حياة، أسلوب عيش، نظرة إلى الوجود، وطريقة تعامل مع الآخرين والكائنات. الشِّعر حياة والحياة لا تكسد ولا تفسد طالما هناك مَن ينتصر لجوهرها ومعناها، والشعراء في الطليعة دائمًا.