loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

بورخيس: لعبة التَّفسيرات الغامضة

breakLine

 


سعيد الغانمي || كاتب ومترجم عراقي

 

كتب نوفاليس: "حين نحلم أنَّنا نحلم، فهذه بداية اليقظة". تضعُنا كلمة نوفاليس هذه في قلب الرُّؤية البورخيسيَّة. فأرض بورخيس هي الحلم والوهم وعدم اليقين. كلُّ شيءٍ لا يؤدِّي إلى شيء. أحلمُ بنفسي في زمانٍ ومكانٍ آخر، وفجأةً أكتشف أنَّني أحلم. وهكذا يبعثر الحلمُ الحلمَ ويذبحُهُ باكتشاف الحلم المضادِّ.
قال بورخيس مرَّة: "قيِّضَ لي أكثر من مرَّة أن أقرأ ترجمة أنطوان غالان لـ"ألف ليلة وليلة". اكتشفتُ أشياء كثيرة، لكنَّني حلمتُ بشيءٍ واحدٍ؛ هو أن أملك بساطاً سحريّاً، ينقلُني إلى الأزمنة كلِّها والأمكنة كلِّها. ولم يكن تحقيق هذا ممكناً، فأطلقتُ لخيالي العنان".
أن أحلم بأحدٍ يعني أنَّه قد يكون يحلمُ بي أيضاً. وقد يظنُّ كلانا أنَّه الحالم، كما يقول بورخيس في قصَّة "الآخر"، وربَّما توقَّفنا عن الحلم، وربَّما واصلناه.. وواجبنا في الوقت نفسه أن نقبل بالحلم تماماً كما نقبل بالعالم، وبأنَّنا نولد ونرى ونتنفَّس. وإعادة فحص الحلم هي نوع من نظريَّة معرفة مضمرة تنطوي عليها أعمال بورخيس. فبورخيس، على حدِّ تعبير غالغر، كان "فيلسوفاً هاوياً طيلةَ حياتِهِ، وأعمالُهُ مليئة بالأفكار". وأفكاره تعرِّي المعرفة البشريَّة وتفضح غرورَها، عندما تكشف عن الهوَّة الفاصلة بين الكلمة والمعرفة وعدم اليقين.
بين شخصيّات بورخيس المفضَّلة اثنانِ عُرفا بالمثاليَّة الذاتيَّة؛ باركلي وشوبنهَوَر. وليس اختيار بورخيس لهما بعبثٍ. إذ هو لا يختارهما ليثبتَ أناه، بل ليضيِّعَها. ففي فلسفة باركلي يتحوَّل كلُّ شيء إلى إدراكٍ. فالشَّيء هو المدرَكُ، وما يختفي عن الإدراك هو احتمالٌ ونفيٌ وافتراضٌ. ولا يكون الشَّيء هناك إلا بقدرِ ما تسقط عليه حواسي. وهكذا فإنَّ باركلي ينفي العالم لتتَّسع ذاته، أو ليحوِّله إلى لغة رمزيَّة يتحدَّث بها كائنٌ مطلقٌ. فهو في النِّهاية يؤكِّد ويطمئنُ ويريح، ولو بفضل العودة إلى الحسِّ أو المطلق. وقد وجد ميرلوبونتي في ذلك تمجيداً للإدراك الحسِّيِّ، واطمئناناً أوَّليّاً ببراءة الحواسِّ، واستباقها لكلِّ منطقٍ. أمّا شوبنهوَر فقد امتصَّ العالم، لينفخ ذاته، وليجد نفسه أخيراً في الفرد والعبقريِّ وإنسان نيتشه المتفوِّق.
يبدأ بورخيس معهما من النُّقطة نفسها، ولكنَّه ينتفض عليهما. ذلك أنَّ مثاليَّته الذاتيَّة لا تؤدِّي إلى ذات، بل إلى سيلٍ من الذَّوات الأخرى. وهو يدرك أنَّ الواقع تصوُّرٌ وامتثالٌ وإدراكٌ، ولكنَّه لا يستطيع أن ينتهيَ إلى يقينٍ يطمئنُهُ على هذا التَّصوُّر والامتثال والإدراك، وأنَّهما من فيض ذاتِهِ، لأنَّه يجد ذاته دائماً في حالة هَرَبٍ. فهي تختفي دائماً وراء ذاتٍ أخرى، وتختفي تلك الذات الأخرى وراء تسلسلٍ من الذَّوات الأُخر. في قصَّة "الآخر" يجد بطل القصَّة، واسمُهُ بورخيس، نفسه في كامبرج عام 1969 أمام بورخيس آخر في جينيف عام 1914. وكان عليه أن يبذل جهداً لإقناع الآخر أنَّه بورخيس. وفي النِّهاية يقول: "فكَّرتُ كثيراً في ذلك اللِّقاء الذي لم أروِهِ لأحد. واعتقدتُ أنَّني وجدتُ المفتاح. كان اللِّقاء حقيقيّاً، أمّا الآخر فقد كان يحلمُ عندما تحاور معي. وهذا ما يفسِّر نسيانه لي. لقد تحدَّثتُ معه في اليقظة، وما تزال ذكراه تنغِّصُني".
إذا لم تكن مثاليَّة بورخيس ذاتيَّةً، فماذا تكون؟ هل هي مثاليَّة أفلاطون الموضوعيَّة، أم مثاليَّة كانط المتعالية؟ إنَّ بورخيس يعلن صراحةً ضجره من مثل أفلاطون. كتب يقول: "في تلك المجالات الفكريَّة لا أستطيع التَّعبير عن أيَّة فكرة، ولا أعتقد أنَّ أيَّ فردٍ قادرٌ على حدسها دون مساعدة الموت أو الحمَّى أو الجنون". وقد أشار غالغر معلِّقاً: "في النِّهاية لا يمكن تدقيق أيَّة فرضيَّة عن الحياة الأخرى دون زيارتها". وحتى لو زارها بورخيس فإنَّه لن يؤمن. في قصَّة "الآخر" يستشهد بورخيس بواحدٍ من أخيلة كولرج: "وعلى حين غرَّة تذكَّرتُ واحداً من خيالات كولرج: شخصٌ ما يحلم بأنَّه يقوم برحلةٍ في الجنَّة، فتُقدَّم له زهرة، وفي اليقظة يجد الزَّهرة في يده". فيلجأ بورخيس إلى الحيلة نفسها؛ يطلب من الآخر قطعة نقودٍ، ويُعطيه دولاراً. وفي اليوم التالي يكتشف أنَّ الآخر كان يحلم بالتاريخ المكتوب على ظهر الدُّولار. يستوعب شكُّ بورخيس كلَّ شيءٍ، حتى ذاته. وهكذا يتطاير منه كلُّ شيءٍ حتى الشَّكّ نفسه.. وهو لا يعلم ما إذا كان شكُّهُ شكّاً أم حقيقة. ولذلك فهو لا يستطيع أن يؤمن بذات متعالية. بل هو عارٍ ومجرَّد، مثل هنديٍّ أحمر. وهو أقرب إلى شتراوس، الذي كان يأخذ من كانط تعاليه، دون أن يؤمن بالذاتيَّة.
بورخيس وشتراوس كلاهما كان يبحث عن النَّموذج الجديد، وآمن كلاهما بضعف الأشياء. ولكنَّ شتراوس لا يعرف قلق الرُّوح. فلم يجرِّب ذلك الضَّياع الفكريَّ في اللاشيء. ويجد راحته أخيراً في أنثروبولوجيا بلا ذاتٍ، وفي لعبة المكعَّبات البنيويَّة المتعالية.
بورخيس لا يستطيع أن يؤمن بالعلم لأنَّه لا يستطيع أن يؤمن بأيِّ شيءٍ، حيث يفيض غرور المعرفة البشريَّة عن عدم تناهي لعبة التَّفسيرات الغامضة، وحيث يكون كلُّ شيءٍ ممكناً. "فإذا كنتَ لا تعلم بوجودِ العالم، أو من هو بورخيس، فإنَّك لن تعلم أنَّ علامات أحشاء النَّمر الأمريكيِّ ليست برسالةٍ سرِّيَّة من الله".
ثمَّة شبه آخر بين بورخيس وشتراوس، وهو إهمال التاريخ. فالتاريخ عند شتراوس دائم الغياب وملغيٌّ تماماً. إذ يتعلَّق بما لا تاريخ له بكلِّ معنى الكلمة. والمهمُّ عنده هو العلاقات بين الأشياء، لا الأشياء نفسها. والتاريخ عنده هو الخلفيَّة الميَّتة التي لا تُلقي ظلّاً ولا تفسِّر شيئاً. كتب شتراوس في "العقل الوحشيّ": "ليس التاريخ أبداً لذاته، بل التاريخ بالنِّسبة لنا أو لي".. وكذلك بورخيس الذي لا يعود التاريخ عنده سوى أسلوب لمعالجة الواقعة الآن. وإذا كان الزَّمان لا نهائيّاً، فإنَّه دوريٌّ. جاء في قصَّة "كتاب الرَّمل": "إذا كان الزَّمان لا نهائيّاً، لكنّا عند أيَّة نقطة في الزَّمان". والابتداء من نقطة معيَّنة يعني أنَّ الزَّمان يتكرَّر. فهو الإعادة المتواصلة للنُّقاط نفسها. يمكن لبورخيس عام 1969 أن يلتقيَ ببورخيس عام 1914، دون أن يشعر باختلال الزَّمان. فهو الشاهد على الزَّمان، بدلاً من أن يكون شاهداً عليه. وفي قصص بورخيس جميعاً تتكرَّر متوالية التَّذكُّر المتردِّد نفسها. جاء في قصَّة "ليلة الهبات": "لقد انقضت السُّنون، ورويتُ هذه القصَة عشرات المرّات، ولستُ أدري ما إذا كنت أتذكَّرُها كما هي، أم أنَّني أتذكَّر كلماتي فقط".
ولقلقِ بورخيس وريبتِهِ الدائمة وظيفةٌ إيجابيَّة في فنِّهِ الأدبيِّ، لأنَّه حين يخفقُ معرفيّاً ينجح فنِّيّاً. فالشَّكُّ في كلِّ شيءٍ هنا شكٌّ فعّال، ولا يكتفي بالمتاح والمعطى، بل هو في حالة بحثٍ متواصلٍ، ولا يستطيع أن يرضى بأيِّ نموذجٍ. وهذا ما يفتح خياله لاستقبال النَّماذج الفنِّيَّة والثَّقافيَّة والمعرفيَّة الجديدة باستمرار. كلُّ نموذج بالنِّسبة إليه هو موضع شكٍّ، ولهذا فإنَّ أيَّ نموذج مكتشف هو نموذج قديم. وهكذا يبقى في حالة بحثٍ مستمرٍّ. ويكتسب البحث هنا قيمةً أعلى وأبعد من قيمة النَّموذج الموجود. وبورخيس يحاول دائماً أن يُبقيَ على خياله في حالة إنذار مثل نمرٍ جريحٍ يترصَّد. وبالتالي هذا ما يجعله السَّيّاف والضَّحيَّة في وقت واحد، لأنَّ هذا الشَّكَّ وعدم اليقين إذ يخلِّصُهُ من الاطمئنان إلى أيِّ نموذجٍ أليفٍ، ويؤدِّي به إلى البحث الدائب عن إشكاليَّة النَّماذج الممكنة، فهو في الوقت نفسه يكون "نموذجه" المتكرِّر، بحيث يصبح الشَّكُّ نتيجةً معرفيَّة، بدلاً من أن يكون وسيلة فنِّيَّة. وذلك ما يجعل قصص بورخيس تنطوي في النِّهاية على الارتياب والتَّردُّد والتَّكرار والمتاهة كقيمٍ ثابتة، وليس كمجرَّد أشكالٍ فنِّيَّة.
لعبة المرايا هي وسيلة بورخيس الأولى. الصُّورة المنعكسة في المرآة تعكسُها مرآة أخرى. وهكذا تتسلسل الصُّور. ولا تشكِّل هذه اللُّعبة القديمة مصدراً للرُّجوع إلى الموروث القديم، أو صهر الزَّمن الميَّت في الزَّمن الحيِّ فقط، بل إنَّها تؤدِّي على المستوى المعرفيِّ إلى حالة التَّحوُّل المتواصل في تسلسل الذَّوات وإحالتها المستمرَّة إلى غيرها. وبورخيس دائماً غير موجود. لأنَّ ذاته تحيل دائماً إلى ذاتٍ أخرى، وتحيلُنا الذات الأخرى إلى غيرها، أو كما يفضِّل بورخيس أن يسمِّيَها "الأنا الأخرى"، حيث يكون المرء راصداً ومرصوداً. وهذا ما ينتهي بالمحاولة إلى الشَّكِّ والارتياب.
من الطَّبيعيِّ أن يتغيَّرَ معنى الزَّمن في هذه الحالة. فهو لا يعود مجرَّد منظرٍ خلفيٍّ ثابتٍ مع تغيُّر المشاهد، بل ينتقل من الزَّمن المحدَّد إلى الزَّمن المجرَّد، أي من الزَّمن الضِّيِّق إلى زمن الأبديَّة الواسعة. وفي قصَّة "يوتوبيا رجلٍ متعب"، جرَّب بطل القصَّة كيف ينتقل من القرن الذي يعيش فيه إلى مئات القرون في المستقبل، وعندما التقى برجل المستقبل أخبرَهُ هذا الأخير أنَّهم يحاولون أن يعيشوا من وجهة نظر الأبديَّة.
ولكنَّ بورخيس يريد لقصصه أن تكون حقيقيَّة. ولذلك فهو يدسُّ في قصصه جميعاً وقائعَ من حياته الخاصَّة، أو في الأقلِّ، وقائعَ تاريخيَّة من حياة سواه. وهو يؤكِّد على أنَّ هذه القصص حقيقيَّة برغم غرائبيَّتها. وهي قصص حقيقيَّة بمعنى أنَّها تتضمَّن تجربة ذهنيَّة أو باطنيَّة، وليس بمعنى احتوائها على مشكلة عينيَّة، برغم أنَّ بورخيس لا يتورَّع عن أن تكون لقصصه ثيماتٌ وموضوعاتٌ جانبيَّة بالإضافة إلى الموضوعة الرَّئيسة.

(مقدَّمة ترجمة "كتاب الرَّمل"، بغداد 1986)

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي