loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

المدير الكرونومتر

breakLine

المدير الكرونومتر

حسن بولهويشات / شاعر مغربي

 

هذه جملة تعليق صديقي حميد على واقعة مدير مدرسة ابتدائية استفسر أستاذة تأخرت عن العمل لمدة عشر دقائق. ويظهر في الوثيقة الإدارية، التي تدور بين صفحات فيسبوك منذ البارحة، أن المدير كان دقيقًا في عمله هو الآخر حين أورد كرونولوجيا مفصلة حول تأخيرات الأستاذة بالدقائق والتواريخ طوال ثلاث سنوات الأخيرة، وهي  التأخيرات التي لا تتجاوز في مجمل السنة العجفاء 15 دقيقة. ونحن نعرف أن موظفي الإدارة العمومية يقضون معدل ساعة وأزيد في اليوم في التفوه أمام مرآة مرحاض الإدارة. في مداعبة قطط الإدارة والاطمئنان عبر واتساب على الأولاد. وفي التسكع بين المكاتب والأروقة لتحريك الدم في المفاصل دون أن يتعقبهم أحدٌ بالاستفسار أو تتحرك الزوبعة في محيطهم. المهم أنهم يشتغلون والإدارة مستمرة في خدمة المواطنين. أين المشكلة؟

 لا ندري السياق النفسيّ (المرضي؟) الذي سبق كتابة هذا الاستفسار. لكن عمومًا، نتأسف على هذه المقاربة القديمة التي مازالت تعشِّش في الإدارة المغربيّة وتسيء تحديدًا إلى الوجه الجديد الذي تريد وزارة التربية الوطنية أن تظهر به في السنوات الأخيرة. خصوصًا وأنها أحدثت مسلك الإدارة التربية يتخرّج فيه عددٌ كبير كلَّ عام، ويُنتظر منهم تنزيل تصوّر حداثي للتسيير الإداري وتجاوز عنف الخطاب سواءً المكتوب أو الشفهي. ولا أعرف هل صاحبنا من هؤلاء الخريجين الجدد أم من أولئك القدامى الذين تسلموا مفاتيح الإدارة بالهاتف ومزجوا في عملهم بين ساحة المدرسة وساحة البهائم في السوق، حدّ أننا سمعنا مدير مدرسة بقرية نائية استل عصا من شجرة الزيتون وبدأ يضرب الأستاذة على مؤخرتها كما يضرب السيد العبد في قصيدة المتنبي.

شخصيا، لم أستغرب من وثيقة المدير التحفة. مثلما لن يستغرب كثيرون من أمثالي الذين وجدوا أنفسهم في أواسط تلك التسعينيات البعيدة يخرجون من باب الثانوية بشهادة البكالوريا في اليد ليلتحقوا رأسًا بمدرسة تكوين المعلمين. لقد استأنسنا باكرًا بمثل هذه الاستفسارات السوريالية ومنطق المدير السيئ الذي يقسِّم الأساتذة إلى موالين ومارقين، إلى فريق الرجاء وفريق الوداد. حتىّ أن كل واحد منا يحتفظ  في سجله المهني بنوادر غاية في الإرباك. ومع ذلك عليك أن تنسى دائمًا وتغادر لتدير حياتك بعيدًا عن أشجار البيداغوجيا اليابسة وإلا وجدتَ نفسك مثلهم مصابًا بالسكري وتشرب الشاي باللويزة وبلا مذاق. وأية قسوة وأي ألم دفين أشدّ من هذا؟  

    للأمانة، شرّفني الزمن المغربي فاشتغلتُ جنب عدد مهم من المدراء، يفوق عدد الشعراء الذين  مدحوا هارون الرشيد. منهم الذي يعلق حدوة الحصان على باب السكن الوظيفي. منهم الذي يرشّ عتبة باب الإدارة بسائلٍ غريب كلّ صباح قبل أن يقفز كتيس ويدخل. والثالث الذي يعلق خيط الصوف جنب مقود السيارة ويشرح المذكرات الوزارية في الطريق الفلاحيّة. والرابع  الذي يحشو أصبعه في تجويف الأنف فيستخرج كنزًا أخضر يلفه على شكل كرّة، ثم يرسل الكرة بعيدًا كأي رياضيّ بارع. والخامس الذي يتحرك بين الوحدات المدرسية ممتطيًا بغلة، ويمتنع عن شرب الشاي معانا مخافة أن نقتله بالسمِّ. وحتى عندما جفلت البغلة بسبب أرنب بري عابر ذات مرّة وسقط المدير وسط الأشواك (وخدشت كرامته؟) أشاع عنا أننا لا نحبّه ونطارده بعيونٍ شريرة.

     وتطول اللائحة مع مدراء كثيرين مازالوا رهائن في يد ميليشيات نقابية، يقدِّمون الولاء لمكاتبها المحلية في انتخابات اللجان الثنائية. ومنخرطين قسرًا في ولائم المآتم والأفراح أكثر ما يفعلون مع عائلاتهم. يتقاسمون فيما بينهم الكسل الوجودي بالمقاهي، والنفاق الأصفر وورود المجاملات في فيسبوك أكثر من أن يفكروا في حمل إكليل وردٍ ووضعه على قبور أمهاتهم. ونستثني منهم طبعًا هؤلاء الكحوليين المحطمين الذي يسرقون من أموال مدرسة النجاح كي يسكروا ويعودوا في الليل ليتحرشوا بالأستاذات في واتساب. والقلّة القليلة التي نحييها في صباح هذا الأحد.

    وكي لا نكون متشائمين ونخلط البيض الفاسد بالصالح في سلّة واحدة، دعوني أروي لكم قصة أحدهم الذي اشتغلت إلى جواره أول مرّة بالجنوب، والذي وجدتُ نفسي أحبّه بلا سبب واضح. بل استعضت به عن الوالد الذي تركته ورائي في البيت، وأصبحتُ أبوس رأسه كل صباح في خيالى فأتذكر أبي وأقاوم ألا أبكي. ليس لأنه كان مفتونًا بحرف النون ويكتب » «شكرن» و  «جزيلن» في المراسلات، وإنما بسبب هذا الإيمان الكبير الذي يسبقه والدرهم السوداء المرسومة على جبهته من كثرة السجود. كان يدعونا إلى بيته، ويتعمد إجلاسنا في صالون وسيع جنب مصحف القرآن الكريم في نسخة من الحجم الكبير، وأمام صورة كبيرة يظهر فيها جوار عامل الإقليم وشخصيات أخرى عسكرية. يدفع أمامنا صحون اللوز والتمر بمحبّة في انتظار العشاء. ويُكثر من الاستغفار حتى وهو يرفع البراد ويصبّ الشاي في الكؤوس أو يطرد قطا بفردة حذاء. أحيانًا يدعو الفقيه وأصدقاءه كي يرافقوننا في السهرة ويفجّروا صمت البيت بسوّر القرآن قبل أن ننخرط جميعًا في الدعاء الطويل لأم المدير التي لا نعرف عنها شيئًا سوى أنها ماتت في ظروف غامضة جنب وادي درعة. وننهمك نحن الأساتذة في تدريس الصغار في الصباح بكلّ مسؤولية، محروسين طبعًا بظلال المدير الوارفة كما لو كنّا أبناءه الحقيقيين لدرجة مرّ العام سريعًا ووصلنا منتصف شهر مايو بمعنويات مرتفعة. وبدأنا نفكر في التقويم السنوي حين تفجّر صمت القرية بخبر المدير الذي مات مخمورًا في بيت محبوبته. مات على صدرها العالي بسكتة قلبية كأي شهيدٍ.

 مازلت أتذكره بأسىً حقيقي وغصّة في القلب على انقضاء تلك الأيام الجميلة. وأتأسف على مزاج هؤلاء المدراء الجدد الذين بمجرد ما يتسلمّ الواحد منهم مفتاح الإدارة حتّى يُرافقه شعورٌ أنه تسلمَّ مفتاح سيدنا سليمان واستقوى وسط أصهاره. وأنه محسودٌ من طرف جيرانه ومراقبٌ من رجال المخابرات.

 

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي