loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

الفلسفة استخدام ونبذ حسب الحاجة

breakLine

 

 


كلكامش نبيل |  كاتب عراقي

 


قُبيل سنوات، كنتُ أنظر إلى الفلسفة بطريقة تختزلها في فلسفات التنوير وأراها السبيل الوحيد للتطوّر والتشكيك في المسلّمات وإحداث التغيير ومواجهة الأديان. بمرور الوقت، اكتشفتُ أن هذه النظرة سطحية وتُعامل الفلسفة وكأنها كتلة متجانسة ومدرسة فكرية واحدة، في حين أن الفلسفة اسم جامع لتيارات فكرية متضاربة.

يعتقد المتشددون من المؤمنين بأن الفلسفة بوابة الإلحاد، ويشاركهم في ذلك بعض دُعاة الإلحاد، فترى التيار الأول يحاول منع الفلسفة في حين يرى التيار الثاني ضرورة تعميم تدريس الفلسفة والنقد بهدف إسقاط الأديان. عند النظر مليًا، نجد أن كلاهما مخطئ لأن مدارس الفلسفة متنوعة.

في اليونان القديمة، كانت هناك فلسفات تثبت وجود إله كلّي القوة والمعرفة والقدرة، وهناك فلسفات ذرّية مادية أقرب للإلحاد، وفي العصور الوسطى كانت فلسفات المسلمين والمسيحيين (توما الإكويني وغيره) واليهود (ابن ميمون وغيره) أقرب للاهوت منها إلى الفلسفة وشكّك بعضهم في النظرة الأصولية للأديان، في حين استخدم البعض الآخر الفلسفة لإثبات الإله والأديان والوحي (في حالة المسلمين) والثالوث (في حالة المسيحية)، وحتى في العصور اللاحقة، كان «هيغل» مؤمنا بالمسيحية ويُعلي شأنها على الإسلام واليهودية ويرى التحرّر في الثالوث، وكذلك حال ديكارت وإسبينوزا، وكلاهما ربوبيان. في المقابل، هناك فلسفات لاأدرية – مثل فلسفة برتراند راسل – وفلسفات وجودية وإلحادية عدمية.

المشكلة أن المؤمن المتشدّد يقف ضد الفلسفة خوفًا من الإلحاد، في حين أن الملحد يشاركه ذات التصوّر ويريد تعميم الفلسفة لنشر الإلحاد (في نظره)، متناسيًا أن فيلسوف التنوير «جان جاك روسو» نفسه كان مسيحيًا مومنًا – على مذهب كالفن والكاثوليكية فيما بعد.

بالمثل، يُبسّط البعض موضوع الفلسفة ويروّج بأنها الطريق لتعزيز التفكير الديمقراطي، متناسيًا أن «أفلاطون» كان ضد الديمقراطية. باستخدام الجدل الفلسفي يمكنك مساندة أو نقض الديمقراطية. في النهاية، كل مدرسة فكرية تمثّل استجابة لظروف عصرها واحتياجاته، ولا يمكن التعامل مع الفلسفة كأنها شيءٌ واحد، لكن كل شخص يختزل الفلسفة فيما يتبناه، ويتحدّث عنها وفق رؤيته القاصرة لها.

في الواقع، وجدتُ أن الجميع يستخدم الفلسفة عندما تلبّي احتياجاته، ويرفضها عندما لا تخدمه. في نقاشاتٍ مع بعض المؤمنين فوجئتُ بأن استخدمنا لكلمة «عقلاني» أو «عقلي» مختلف. فقد لاحظتُ أنهم يصفون كل ما ينتج عن أفكار العقل بالعقلاني، أي أنه استدلال عقلي لأنه يُدرك بالعقل، في حين أننا نستخدم كلمة «عقلاني» لوصف ما نعدّه منطقيًا ويطابق الواقع المُعاش. يقول المؤمن إن تخيّل فيل يطير «ممكن عقلاً»، وهذا صحيح، لكننا نجد أن هذه الفكرة العقلية خيالية وغير «عقلانية»، وإمكانية تخيّلها لا يجعلها صحيحة لأن الواقع المادي المرصود يدحضها.

مؤخرًا، شارك أحد الأصدقاء المسلمين نقاشًا يُظهر عكس الشائع، حيث يستخدم هو الفلسفة لنقد نظرية التطور، في حين يرفض الملحد الاحتكام للفلسفة لنقاش البيولوجيا. كتب الصديق: «هذا إنسان علموي يجعل الإستحالة العلمية مساوية للإستحالة المنطقية»، وأضاف أنه «يسخر من الرد المنطقي العقلاني (الفلسفي) على نظرية التطوّر، ولا يرى للفلسفة أية قوة وأي معنى في المعارف التجريبية» وأضاف بأن هؤلاء يخالفون حتى أينشتاين للتمسّك بالعلموية، وقال «يذم أينشتاين طلبة العلم التجريبي الذين ليس لديهم معرفة في الإبستمولوجيا، والتي تعتبر فرعًا من فروع الفلسفة التي يتعالى عنها الشخص في المنشور. مع أنه لن يجرأ على أن يسخر من أينشتاين ويتهمه بأنه معادٍ للعلم وأن كلامه هراء».

كان الشخص الذي تعرّض للنقد قد كتب: «هذا طرحٌ فلسفي، وليس بيولوجي» وأضاف «لا تصلح الفلسفة لدحض الدليل المادي، هذا شيء بديهي».

أمّا تعليقي، فقد كتبتُ: «بغض النظر عن موضوع التطور، نعم هنالك مسائل معينة مرصودة والجدل الفلسفي ضدها لا يدحضها. على سبيل المثال، ناقش الفيلسوف زينون بأننا وبهدف قطع مسافة يجب أن نقطع نصفها، ونصف نصفها، وهكذا إلا ما لا نهاية، وعليه لن نصل إلى الهدف لأننا بحاجة لقطع عدد لا متناهٍ من النقط أو الأنصاف. كلامه فلسفي، ومنطقي من ناحية التنظير، ولكنه لا يجعله حقيقيًا لأننا نعلم أننا نصل بالفعل. فهل ننفي الحركة لأن فيلسوفا يقول ذلك بنقاشٍ عقلي؟»

يصرّ الصديق المسلم على استخدام الفلسفة في نقاش ونقد النظريات العلمية الراهنة، لكنه يدين على بقية الفرق الإسلامية استخدام الفلسفة لنقاش المواضيع الدينية أو الإستدلال على صحة الدين فلسفيا.

في الواقع، وجدتُ احتكام بعض المؤمنين للفلسفة لإثبات فكرة الإله «عقليا» والإصرار على أن دور الفلسفة لم ينته أبدًا وأنها تدخل في فرضيات العلم التجريبي (وهذا صحيح)، كما رصدتُ رفض ملحدين للفلسفة على أنها قاصرة في مجالات العلم التجريبي وأن دورها قد انتهى. وفي الوقت ذاته، ترى أن الملحدين يحاولون تصوير الفلسفة كاحتكار للعقلانية المادية واللادينية، بينما يرفض ذات المؤمن الفلسفة عند نقد أفكاره الدينية ويعود ليقول «النقل قبل العقل».

يذكرني ذلك بالمدرسة السفسطائية التي عاب عليها الآخرون أخذ الأموال لقاء تدريب الناس على فنون الجدل، فضلاً عن تقلّب مواقفهم، حيث كانوا يتفاخرون بأن في إمكانهم مساندة رأي معين والانتصار له أو مهاجمته وتسخيفه حسب الحاجة.

باختصار، الفلسفة ليست كتلة فكرية واحدة، هناك فلسفات ضد الديمقراطية وأخرى ليبرالية ديمقراطية، هناك فلسفات عنصرية وأخرى إنسانوية، وهناك فلسفات إشتراكية وأخرى رأسمالية، وهناك فلسفات ربوبية وحتى دينية وأخرى مادية لادينية، والجميع يستخدم نمطًا من النقاش الفلسفي لدعم فكرته المُتبناة مسبقًا عند الحاجة، لكنه يعود لرفض الفلسفة والنقاش العقلي والاحتكام للتجريب المادي فقط (في حال الملحدين) أو الاحتكام للنقل الديني (في حال المسلمين الأصوليين بالتحديد).

 


 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي