loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

السُلم في قصص محمد خضير

breakLine

 


عقيل عبد الحسين || كاتب عراقي 
 

عُني النقد، منذ وقت مُبكِّر، بدراسة الموضوع، فحدّده بأنّه خطاطة تنظيمية محسوسة، ومركز حيويّ لعالم تخيليّ، ومحور ترابط العمل في كتلة دالة، وعلامة، أو علامات قابلة للفهم والتأويل. وهو يمثل للحبكة ما يمثله المعنى للشكل؛ فهو تطوّر فاعل، وفكرة هامة، وخيط مركزيّ، يكون أنموذجاً للواقع، ونظاماً لترتيب معارفنا حول موضوع ظاهرة ما، في العالم(1)، فإنْ تقصينا علامة مثل "اللَبِنة" في حكاية "مقتل سِنمار"، فسنجدها، أوّلاً، مركزيّة، يرتكز عليها نظام السرد، ولا وجود للحكاية من دونها، فحكاية سنمار تعتمد على اللبنة التي وضعها في القصر، الذي بناه للملك، ولا يعرف مكانها سواه، ويستطيع، إنْ رفعها من مكانها، أنْ يُسقِط القصر. وليتخلص الملك من هاجس أنّ أحداً من رعيته، بيده أنْ يهدم ما بنى، أو يُسقط عليه قصره فيقتله، يأمر برمي سنمار من أعلى القصر فيلقى حتفه. وسنجدها، أي العلامة/الموضوع، وسيلة ترتيب معرفة حول العالم، قد تكون سياسية، فمن يقترب من السلطان، ويحاول أنْ يقوى عليه يُقتل، أو سيكولوجيّة لأنّها تشير إلى صراع، بين الذات ورغباتها، مُستقِر في لاوعي الكاتب أو القارئ، أو سوسيولوجيّة؛ إذ تمثل آراء أو مواقف تتقاسمها الجماعات السوسيوثقافيّة وتروج لها عبر الحكاية، أو تاريخية تشير إلى شيوع نوع من المواقف حول قضايا سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة في حقبة من الحقب(2).
وليست دراسة الموضوع في السرد بالجديدة أو الثانويّة؛ إذ هناك إشارة إلى أهمية الموضوع، البنيويّة والدلاليّة في أعمال كاتب بعينه، أو نوع سرديّ، عند تودوروف، وهو يحدد، أوّلاً، طبيعته، قائلاً: إنّه ينبغي أنْ يتسم بالحسيّة(3)، ثم ثانياً، يشير إلى قيمة الموضوع البنائيّة والمعنويّة، قائلاً: إن معنى الموضوع الحسيّ ذاك، لا يتكون إلّا من تمفصله في نظام(4)، أو بعبارة أخرى، هو مُبنيَّن في النص، لا يُدرس بمعزل عن بنيته(5). وبذلك لا يكون الموضوع تكراراً للكلمات، يشكل خصيصة أسلوبية للكاتب، ولكنّه كلمة تشتغل على وفق نظام، وتظهر في نص، أو مجموعة نصوص للكاتب، بصورة شعوريّة أو لا شعوريّة(6). وهو عند تودوروف بحث في العلاقات بين الموضوعات، بعد أن قّسمها إلى موضوعات الأنا، التي تُعبّر عن علاقة الإنسان بالعالم، وموضوعات الأنت، التي تُعبّر عن علاقة الإنسان بالآخرين(7)، أي أنّ تصنيف الموضوع، يعتمد على العلاقة التي يخلقها المرء مع العالم، أو مع الآخرين، وتتجلى عبر الموضوع. وبشيء من التغيير الذي يناسب الكاتب المدروس في هذه المقالة، فتقسيمات تودوروف السابقة جاءت في سياق حديثه عن نوع آخر من السرد هو السرد العجائبي، سأكتفي بموضوع رئيس هو السلم، وبما يؤدي إليه من موضعين هما: الأعلى والأسفل. عادّاً السلم موضوع الآخرين. ويتفرع عنه إما الأعلى موضوع الأنا، أو الأسفل موضوع الآخرين. وسأقترح تسمية للعلاقة بين الشخصيّة وذاتها، أو بين الشخصيّة والآخرين، وتتضح عبر الموضوع، فادعوهما الارتياب، والاختبار.  

السلم وبناء القصة:
يلفت انتباهي، كلما قرأت قصص الأستاذ محمد خضير، تكرار كلمة "سلم" في مجموعاته القصصيّة الأربع، التي سأخصها بهذه المقالة: وهي: المملكة السوداء، وفي درجة 45 مئوي، ورؤيا خريف، والمحجر. وسأعد هذه الكلمة رئيسة في القصص، فهي أقرب إلى بؤرة بنائيّة ودلاليّة. وأقصد بالبنائيّة أن بناء القصة يعتمد عليها؛ فهي، بطريقة ما، التي تنقل السرد من مرحلة التهيأة والتمهيد للحدث الرئيس، إلى مرحلة الدخول فيه، والوصول إلى نهاية القصة. وهي بذا تُعدّ موضوعاً، أي أنّها موضوع للفكرة التي يريد الكاتب أن يوصلها لقارئ قصصه. إنّها، إذن، كلمة مركزيّة ينبني عليها السرد. وهي حامل لفكرته، أو دلالاته، وموقف كاتبه من العالم. ولتوضيح الوظيفة البنائية لموضوع السلم، سآخذ، مثلاً، قصة المملكة السوداء.
تتكون القصة من ثلاثة أقسام هي: التمهيد، والانتقال، والاختتام. والتمهيد أوّل القصة ومدخلها، ويتضمن:
- وصف باب المملكة ((الثقيل بالمسامير العريضة وزخارف المطرقة البرونزية، وبالخشب المتصلب المنحوت الحواف))(8).
- دخول إليها: ((دخل "علي" من الباب القديم الذي حُفرت في خشب إطاره تواريخ هجريّة، وعبارات الشكر لله على فضله في بناء هذا البيت السامق، ووسط هذه الفوضى اللغويّة المثلمة المطموسة بالتراب ونهش الانياب التاريخيّة قرأ "علي" عبارة: "أيها الداخل للحوش اقرا السلام"))(9). ولا يخلو التمهيد من إرصادات بنهاية القصة، فالعبارة: "إقرأ السلام" تناص مع عبارة شعبية "اقرا عليه للسلام"، للشيء إذا ضاع. وهي تشي بعبث مسعى الشخصيّة الرئيسة، وإنّ الشيء الذي جاءت من أجله لن يتحقق.
- وصف البيت من الداخل: ((نفذ إلى الحوش الواسع الذي تتوسطه شجرة السدر. كانت هناك شمس الصباح ورسوم الفحم الهائلة المنتشرة على كل الجدران[...] كانت الرسوم تملأ ساحة الدار أيضا بخيول ذات أرجل دقيقة عديدة كأرجل العناكب، وفتيات ذات شعور طويلة، وجرار منبعجة ناقصة العري[...] كانت أذيال الشمس الأولى الهابطة للحوش، كعقارب فضيّة مشعة، تنسرح على خشب الأعمدة المزخرفة القاعدة التي تحمل سقف الطارمة المُضلَل للمساحة الممتدة أمام الحجرات السفلى والذي يُشكل ممراً مسيجاً أمام الحجرات العليا))(10). والوصف مهارة لمحمد خضير، فهو يتابع الأشكال والعلاقة بينها وبين الأجساد، وتقلبات الظل والضوء، ليشكل مشهداً سينمائيّاً متكاملاً.
والقسم الثاني من أقسام القصة: الانتقال. ويحدث عبر أداة هي السلم، غالباً، أو ما يعادله، مثل: المنارة، أو البرج، أو الجسر، أحياناً، وتتكرر في قصص كثيرة، عبر مجموعات محمد خضير القصصيّة؛ لذا رأيته ظاهرة بنائيّة. ويتضمن:
- فعل انتقال من مكان إلى آخر، صعوداً أو نزولاً. ((عاد علي إلى الدهليز وصعد السلم الذي يحتويه إلى الدور الثاني))(11). وهو حاضر في قصص أخرى كثيرة، منها قصة "أمنية القرد"، وهي عن فتاتين تعملان في معمل خياطة وتسكنان في غرفة واحدة. تقول القصة: ((وهبطت الفتاة تجرجر خلفها ثوب منامها الطويل على الدرجات الضيقة، تستند بيدها على حاجز السلم ذي الأعمدة الحديديّة، وكان قبقابها الخشبيّ يرتطم بآجرات السلم، كلما هبطت درجة منه، ارتطاماً قوياً))(12). وفي "المئذنة"، وسياتي الحديث عنها: ((وعندما غابت الصبية صعدت الزائرة السلم ثانية))(13). وفي "الشفيع"، وهي عن المرأة الحبلى الزائرة، التي تتابع مراسم عاشوراء، في كربلاء، من نزل، تسكن فيه مع عدد من الزائرين من محافظات مختلفة: ((صعدت الحبلى السلالم، كانت السلالم مظلمة والغرف خالية. وكانت تئن أنيناً فاتراً عند ارتقائها لدرجة جديدة))(14). وفي "شجرة الأسماء"، وهي عن صبية بلون الصخور تعرف لغة السلاحف، تلتقي صبيّاً، يكتبان في نهاية القصة اسميهما على شجرة يوكالبتوس: ((تصعد الدرج الخشب للسطح[...] إنّها تتخذ هيئة الثعلب فتعوي مثله))(15). وفي "منزل النساء"، وهي عن رجل، كان الساكن الذكر الوحيد في نزل تسكنه النساء: ((اهبط السلم[...] دلتني أسماء النساء على غرفهن. هذه غرفة كريمة، سلومة، سامية..))(16). وفي "رؤيا البرج"، وهي عن برج يُبنى في المدينة، بعد نهاية الحرب، في أعلاه تمثال مشع، ويتضمن خلوات موزَعة على طبقاته، منها خلوة الخبز، وخلوة الأسماء، وخلوة الرؤيا: ((تبدأ السلالم من قاعدة البرج، وتنتهي عند قاعدة الطبقة الخامسة..))(17).  
- وصف السلم، والمكان من حوله: ((وهنا على جدران السلم صورت الأيدي الماهرة الخفية مملكة حيوانيّة مُتفحمة من الأسماك الخاليّة من الزعانف والأفاعي الملتهبة، والأفواه والطيور الهائلة الأجنحة، والطيور والمناقير))(18). وينبؤ الوصف، شأنه شأن التمهيد بنهاية القصة، فضلاً عمّا فيه من حمولات ثقافيّة، مثل هذه هنا، فهي تُذكّر بقصص الارتحال إلى عوالم الثواب والعقاب في كتب مثل رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، وهما حين يتعرضان للجحيم يضعان أوصافاً تشير إلى الهلاك والعقاب. وفضلا عمّا فيها من حمولات سيكولوجية؛ ففي قصة "أمنية القرد" وصف لما يحيط بالسلم: ((رأت درجات السلم الضيقة وهي تغطس في بئر عميقة، يستغرق الهبوط إلى قعره أياما طويلة. بل إن الهبوط مستحيل، حيث لا تعين العتمة على تلمس الدرجات الضيقة: زلة قدم خفيفة وتنقذف خارج السلم في هاوية عميقة))(19). ويعكس المشهد مخاوف إحدى الفتاتين التي تُفضّل البقاء في غرفتها، على الخروج مع الفتاة الأخرى؛ فهي خائفة وحزينة، تميل إلى العزلة، وتخشى الخروج إلى الشارع، والاندماج في الناس.
أما القسم الثالث، من أقسام القصة، فهو الاختتام. ويتضمن:
- عرض غاية القصة، ففي المملكة السوداء غاية الفتى، سؤال عمته المريضة، عمّا تركه له أبوه، الذي هجر أمه، وعاش مع أخته في البيت القديم، أو المملكة السوداء: ((لكنّي هنا لأرى ما تركه لي. أنا متأكد أنّه ترك أشياء لي يا عمتي[...] انحنى علي وسحب بجهد صندوقاً أسود مرصعاً بمسامير فضية))(20).
- نهاية تتضمن معنى القصة. وتنتهي القصة بالّا يجد "علي" أي شيء ذي قيمة في الصندوق: ((أعاد غطاء الصندوق ورتجه ثم نهض))(21). وتُرشّح النهاية دلالة القصة كلّها. ولكنْ أيّة دلالة؟ إنّها التي تترتب على الكلمة المهيمنة، أو الموضوع: "السلم".
لا أريد أنْ أوحي للقارئ أنّ هذه بنية قصص محمد خضير، ولكنّي أريد أنْ أضع الكلمة، أو الموضوع، في مكانه من القصة: بنائيّاً ودلاليّاً، فالموضوع كلمة جذر، أو بؤرة، أو مركز في كثير من قصصه، حتى يكاد يُشكّل ظاهرة، أزعم أنّها تتصل بأبعاد كامنة في لا شعور الكاتب، إنْ قُرأت بنيويّاً ودلاليّاً، فإنها قد تنير جانباً من نصوصه الثريّة، شكلاً ومعنى، وتخرج بنتائج مقبولة.  

الارتياب:
لعلّ الارتياب، بنائيّاً، يتمثل في المرحلة الوسطى بين بداية القصة ونهايتها. وفي قصص محمد خضير هو الذي يرتبط بتوقف على السلم، طويل، تقع فيه أحداث، أو قصير، للوصف: وصف شخصيّة، أو مكان. ومن أبرز القصص التي يجد القارئُ السلمَ فيها مسرحاً لحدثها الرئيس، هي "المئذنة". وفيها تعود المرأة إلى النزل الذي خرجت منه بعد أنْ تزوجت. وتمدنا القصة بمعلومات غير مؤكدة عن طبيعة النزل، فهل هو منزل سيء السمعة أم سكن لعدد من النساء العازبات؟ وعن المرأة: فهل هي بغيّ، أم مِثْليّة، أم امرأة كبيرة عطوف؟ وعن العلاقة بين المرأة العجوز الضخمة السوداء الداكنة(22)، والفتاة الزائرة الرصينة(23): فهل هي علاقة مُحرَّمة، أم علاقة ألفة ومودة؟ ويوازي هذا التردد في تحديد نوع العلاقات، تردد في الموقف منها، تعكسه أحداث السلم، فالزائرة تلتقي مع المرأة على السلم تقول القصة: ((ولم يطل وقوفها كي ترى الامرأة العجوز الضخمة، الحذرة النظرات، تهبط السلم[...] صعدت الزائرة الدرجات القليلة الفاصلة، وفتحت ذراعيها بآلية، وأمالت رأسها إلى الجانب، تفتح فمها كغور من شوق هائج. وقبل أنْ تصل بدرجة من الامرأة الضخمة، أحاطت خصرها بذراعيها وأراحت رأسها على البطن البارز العاصي))(24). هي لا تترك لها النزول، وفي المقابل لا تترك لابنتها (بالرعاية والتبني)، الفتاة الصغيرة "حسنة"، التي تبقيها في النزل، إلى أنْ تحين فرصة إخبار الزوج بقصتها، وإقناعه بجعلها تعيش معهما: ((لم تتركها "حسنة" تصعد السلم، بل هبطت للمجاز واحتضنتها))(25). وبعد حديث معها، ولعب، وبعد أنْ تعطيها قطعة نقود، طالِبة منها أنْ تخرج لتشري شيئاً ((وعندما غابت الصبية، صعدت الزائرة السلم ثانية))(26). يشي المشهد بعلاقة ملتبسة، لا تريد الزائرة أنْ تقطعها، ولا تريد أن تُبقيها. ولا تريد للبريء، "الطفلة"، أن يقترب منها.
وينطوي الموضوع/السلم، على الرغم من أنّه يوظف في القصص بنائيّاً، وبوصفه صلة بين بداية القصة ونهايتها، على تأمل للعلاقة بالآخر، أيّاً كانت العلاقة: جسديّة كما في هذه القصة، أو نفسيّة، كما في قصة "إلى المأوى". وتتحدث القصة عن نزلاء فندق. اثنان منهم أعميان، يحكيان عن تفاصيل حياتهم، وعملهم، وعلاقتهم بالأشياء، والأصوات، والعالم من حولهما. وثالث مُبصِر، هو السارد، الذي ينقل المشاهد، وكلام الرجلين، ويصف حركات نزيل آخر، يراقبه من المقهى حيث يجلس قريباً من الرجلين، ويحكي عن نزيل، يتابعه أحد الرجلين ويصفه، كأنّه يراه، وهو الأعمى!، يصعد السلم، ويتجه إلى غرفته. وهو يصفه مرتين. الأولى: ((يتمهل النزيل في منتصف السلم. السلم مُظلِم عادة. ثم يستمر في صعوده متحسساً الجدار، وهو يعدّ مع نفسه الدرجات المتبقية كي يصل الطابق العلويّ. بعد المنتصف ينعطف السلم، ويضع النزيل فجأة في فتحة ممر طويل، تقع على جانبيه حجرات النزلاء. الغرفة الأولى على اليمين. يفتح الباب، ويتقدّم في ظلام الغرفة نحو سريره، ثم يجلس على حافته، ويبدأ بنزع ثيابه، وفيما يتفحص مُتثائباً وجوه شركائه في الغرفة))(27). والثانية: ((اعتاد هذا النزيل عدّ درجات السلم في صعوده-عشرون درجة-كما اعتاد خاصة في الليالي الأخيرة أنْ يتمهل عند منتصف السلم[...] بعدئذ يستمر في صعوده الملتويّ. وعندما يدخل غرفته[...] يقترب من سريره في الظلام، ويقف للحظات متردداً في كشف سره الصغير النابض على صدره))(28). يتضح في نهاية القصة أنّ النزيل الذي يتخيّله أحد الرجلين، صاعداً، يعدّ السلالم، هو السارد نفسه، والرجل المُبصِر: ((أتابع صعودي والسلم ينعطف بي ويضعني فجأة في فتحة ممر الحجرات[...] أتقدم في ظلام الغرفة نحو سريري، ثم أجلس على حافته، وأبتدئ بنزع ثيابي، بينما أتفحص متثائِباً وجوه النزلاء الذين يشاركونني الغرفة))(29).
والقصة قصة ارتياب؛ فالمُبصر الذي يراقب الأعميين، ويسمع كلامهما، هو نفسه مُراقَب من أحد الأعميين، في إشارة إلى علاقة الارتياب الكامنة في النفس. والعلاقة طبيعية بالنسبة للأعمى؛ لأنه مُرتاب بعالم لا يبصره. أما في حالة المُبصر فإنها مُتخيلَة ومصنوعة، تسعى إلى تخيّل وضعيات غير معهودة في العالم المعاش، مثل أنْ يطلِّع الآخرون على حركاتنا، وعلى ما يدور في صدورنا. وترمز له القصة بـ(مُرتَفَعَاً داكناً مُدبَباً في أعلى الصدر)، و(السرّ الصغير النابض الذي نتردد في كشفه)، و(الثمرة الحمراء المعلقة بأضلاع الصدر)، و(الحيوان الصغير غير المحسوس).
وهنا شأن القصة السابقة، السلم لا يوصل إلى شيء. هو يبقى في وضع شبه ثابت، يشير إلى رغبات مكبوتة، أو مخاوف مؤبدة، في النفس، من الآخرين، الذين يُرغب فيهم، أو يُشك في أنّهم يتربصون بنا. وتشير إليه القصة الثانية. وفي الحالتين، يمثل الموضوع علاقة الذات بالآخرين، أو بتعبير تودوروف الأنا بالأنت، وهي علاقة من منظور القصص ثابتة، لا تؤدي إلى أيّة انتقالة حقيقيّة، أو إلى صلة ملموسة، وهي في الأساس علاقة مُتخيّلَة، وسيكولوجية، وليست مُتحقَقة، أو واقعية، بل تظل في دائرة الارتياب، الذي لا ينتج عنه إلّا الخوف من الآخرين، وإلّا كبح أيّة رغبة في الاتصال بهم، جسديّاً أو نفسيّاً.

الاختبار:
ينتج عن الموضوع الرئيس، وهو السلم، موضوعات ثانويّة، تتصل به اتصالاً بنائيّاً ودلاليّاً، بنائيّاً بأنْ يؤدي إلى استكمال القصة، وبلوغها تمامها. ودلاليّاً بأنْ ينتج عنه معنى، تسعى القصة إلى بثّه، وإيصاله إلى القارئ. وسأختصر الموضوعات الثانويّة باثنين، هما: الأعلى والأسفل. والأعلى تستعمل له القصص ألفاظ: الأعلى، وظَهْر، وعلو، والطبقة أو الطابق، والعقدة الشاهقة. والأسفل تستعمل له القصص ألفاظ: تحت، والأسفل، والهبوط، والانفلات، والانزلاق. وغيرها بالتأكيد، ولكنْها، أيّاً يكن، تشير إلى موضوع يتصل بالموضوع الرئيس/السلم، ويفضي إليه هذا الأخير، إما صعوداً أو نزولاً، ويُرتِّب عليه معنى. وسأقترح لموضوع الأعلى معنى "تعارض"، ولموضوع الأسفل معنى "انسجام"، مُستفيداً من إشارة وردت في كتاب سعيد علوش "النقد الموضوعاتي"، تقول: تساعدنا متابعة الموضوع، في نظام معين، على فهم ثنائية مثل التعارض والانسجام(30). ومن العلاقة الناتجة من هذه الثنائية، ودعوتها الاختبار، نفهم القصة، ونحدد موقفها من العالم.
والتعارض، إذا أردتُ أنْ أحدد له فهماً، هو أن تتعارض الرؤية/الرؤيا مع غاية الشخصيّة الرئيسة في القصة، فيحبط مسعاها؛ ففي قصة "تاج لطيبوثة"، تبحث الشخصيّة عن قبر بنت تدعى "طيبوثة"، تتمتع بصفات الحيويّة، والذكاء. وتحاول أنْ تصنع لها نصباً، يُذكِّر بها، تثبته في مكان من الصحراء، وتختار للنصب مكاناً قرب منارة، يصعدها من سلم حلزوني يلتصق بجدارها(31)، ليستوي على قمة فيها، ويكشف الصعودُ، والاستقرارُ في الأعلى، والرؤيةُ منه، تشوشاً في الرؤية، واختفاءً للأشياء التي كان يدركها، ويستقصيها، ويحدد مواقعها تحديداً دقيقاً حين كان في الأسفل، ((هاجم بصري أثر ذلك فراغ أبيض طافح بالضوء[...] وحيرني اختفاء مخيم البدو الذي أعرف أنّه في ذات الاتجاه))(32).
ومثلها قصة "احتضار رسام"، التي تتحدّث عن رسام اسمه "محمود أفندي"، مولَع برسم مجموعة من التخطيطات للولاة العثمانيين، ولبغداد العثمانيّة من منظور رسام مُختَص برسم الولاة ومشاهد حياة تلك الحقبة. وهو في سياق ذلك، يصف المدينة من الأعلى، فيقول: ((بغداد كما تبدو من علو 30 متراً مهجورة موحشة محشرجة قاتمة غارقة محاصرة))(33). وقد يتضمن الوصف إشارة إلى مصير الرائين، المنعزلين عن زمانهم ومكانهم، فالرسام يصير ذا ((مظهر تعيس لا يطبع إلّا الكائنات المنقرضة التي تظهر عالمنا من غير توقع[...] بسدارة مغبرة وثياب متسخة وذقن شائك وحذاء بالٍ))(34). وينتهي بالموت مُنتحِراً.
وفي "حكايات يوسف" يتخيّل السارد داراً، يتوزع طبقاتها الصنّاع. وفي طبقتها الأخيرة المؤلفون الذين يعملون عملاً، لا ينتهي، فهم يعيدون كتابة كل صفحة مرات ومرات كي يستمتعوا بوجودهم في الدار ولو أكملوا الكتاب لاختفوا(35). ويقول عنهم: ((ارتقوا إلى الطبقة الثانية عشرة الأخيرة وتأبدوا فيها... لا يفرغون من صحائفهم))(36). وهنا يتصل الأعلى بالعبث والرتابة والتحريف، ومن دون أي إنتاج فكريّ، أو ثقافيّ، حقيقيّ.
وفي قصة "أطياف الغسق"، وهي عن حفيد النحات الفطريّ منعم فرات، واسمه "فرات الرابع"، الذي يريد أنْ ينصبه على حافة الصحراء، يصف النحات مشغله في مركز الفنون، فيقول: ((يتشعب ممر يرتقي تدريجيّاً إلى مستوى أعلى من القاعات، ويؤدي إلى استوديو[...] حُرم سكانه من ضوء النهار. فقد كان الاستوديو مُظلماً، بل كان غارقاً في سواد كامل))(37). والاستوديو في الأعلى؛ لذا هو مظلم، فالأعلى ظلام وعماء، كما تقول القصة.
وشخصيّات الرؤيا، بما أن المجموعة تعتمد على الرؤيا، تصعد إلى الأعلى باحثة عن اليقين، وتنهي بالخسارة؛ فالشخصيّة في قصة "داما دامي دامو" التي تعكس رؤية لعالم مُتخيَّل، تُهزم، في النهاية من صبي، وتقول: ((لم تتبق من حياتي إلّا خطوات صعبة. ساعات من الشعور بالهوان))(38). وفي "أطياف الغسق" يكون مصير فرات الرابع مصير جده ((اليد راعشة والعين كليلة والجسد مخذول أمام صلابة الحجر))(39).
وهكذا تتعارض الرؤية، التي تتصل بالأعلى، وتتحقق من النفاذ، عبر السلم، إليه، مع غاية الشخصيّة، فتنتج مصيراً مأساويّاً، يُبيّن، إذا تأملناه في ذاته، موقفاً رافضاً للابتعاد عن الواقع، والانفصال عنه، مُشدِدا على أن الرؤية، حتى الجديدة والمبتكرة، تبع منه. فالرؤية الحقة في الأسفل: ((كانت خلوة واحدة تهمني، خلوة الرؤيا، وسأعاود الهبوط إليها))(40).
يقابل هذا النوع من المعنى المتصل بالأعلى، معنى آخر يتصل بالأسفل، هو الانسجام يتميّز عن السابق، في أنّه يمثل علاقة بالآخرين. ويمثل التعارض علاقة بالأنا؛ فالتعارض لا يخرج عن تأمل علاقة الذات برؤيتها للعالم وموقعها، فهي من الأعلى رؤية مشوشة وقاتلة. أما الانسجام فيمثل علاقة الأنا بالمجتمع، والآخرين الموجودين والمتحركين في الواقع. وهو مجال لانخراط الأنا في الواقع، وفي المجتمع. وتخلع عليه، أي موضوع الأسفل، القصص مجموعة من السمات منها:
1. التخفف والتحرر. في "أغنية القرد" الفتاة في الأعلى كئيبة وحزينة، والفتاة في الأسفل فَرِحة ونشيطة، والثانية تدعو الأولى إلى الهبوط للاستحمام، وللخروج معها إلى السوق وإلى النور: ((قالت الفتاة الأخرى أنت منهارة اهبطي لتستحمي))(41). وهي تخرج إلى العالم. في المقابل تبقى فتاة الأعلى في مكانها، تكتفي برؤية الشارع، من مكانها وبأمنية القرد الحزينة، التي تزيدها كآبة: ((نهض القرد مُتثاقلاً، وسارعت الفتاة بالابتعاد عن النافذة. كان سريرها مشوشاً، فاستلقت عليه، بانتظار هجوم الخيول، التي تُقبل من الحائط مسرعة إليها))(42).
2. اليقين والسهولة، ففي "رؤيا البرج"، يصف السارد النزول بأنّه سهل ويقينيّ(43).
3. الوضوح والتفصيل، فحين تنزل الشخصيّة "في تقاسيم على وتر الربابة"، ترى العالم وتصفه:((هبط درجات عربة القطار النازل. شاهد خزّان الماء خلال ظلمة المحطة كزهرة حديدية مُبللة تحت أغصان متشابكة سوداء، وكانت السماء مُبلطة بالسواد تمطر رذاذاً، والحصى يبرق تحت أضواء الأعمدة، والسكتان الحديديتان لامعتين كسفيفين أثريين، كان الطريق موحلاً، وكذلك سوق البلدة الرئيسيّ، والأبواب مُقفلة جميعها على جانبي الزقاق، كأنّه أدرك، لأول مرة، أنّه يمشي))(44).
4. الجمال والإشراق: ففي قصة "تحت الجسر"، المُخصصة لثورة تشرين، يبدو الأسفل، أي أسفل الجسر، جميلاً، ومشرقاً، ومُبشِراً بالثورة، يتحرك فيه الثوار، حاملين أمل التغيير: ((انبعجت ايقونات وجوه العالم الأسفل مرسومة بعناية وإشراق لونيّ ساطع))(45).
5. الثورة: تقول إحدى شخصيّات في قصة "تحت الجسر"، للمصور المعنيّ بتصوير الجسور، وهو يصادف الثوّار قابعين تحته: ((هذا مكان لا نقصده إلا عندما نهاجم الواقع الأعلى بعنف))(46).
يُشار إلى أنّ الموضوع الواحد يُعبَّر عنه بأكثر من اسم، منها في حالة السلم، المئذنة والبرج والمنارة والجسر، وكلّها صلة بين الأعلى، والأسفل، يُصار، عبرها، إلى تأمل العلاقة بين الأنا ونفسها، أو الأنا والآخرين. وبذا يكون الجسر في مجموعة "المحجر"، بديلاً عن السلم، في أنّه صلة بين عالمين، هما: الأعلى والأسفل، عالم السلطة، وعالم الثورة ضدها، وهما لا يتفقان. ولكنّ الأنا تجد نفسها فيه، أي الأسفل، وتنسجم معه. وهي، منه، تخرج بنتائج على صعيد وظيفة القصة في المجتمع، من أهمها نقد السلطة، والانحياز للثورة، وترسيخ الوعيّ، عبر التمثيل السرديّ، بتعالي السلطة وقسوتها وظلمها، وبقدرة الشعب القويّة، المُتجددة، على الرفض والمقاومة، فالأسفل هو المُنطلَق لتغيير الواقع.
أختم بالقول إنّ علاقة الاختيار، تتشكّل من تقابل معنيي التعارض والانسجام، وترجيح أحدهما على الثاني، في القصص، للانتهاء إلى موقف، هو أقرب إلى أنْ يكون قبول الآخرين والواقع والمجتمع، والانتماء إليهم، وجعل الرؤيا، والكتابة القصصية، فعلاً نقديّاً تغييريّاً اجتماعيّاً.

خلاصات:
• التوقف على السلم يؤشر علاقة ارتياب بالآخرين، تتحكم بالشخصيّة.  
• تتحدد دلالات القصص، بما يفضي إليه السلم، فإن أفضى إلى الأعلى كان المعنى تعارضاً، وينتج عنه دلالة مفادها أنّ أيّة رؤية من الأعلى لن تكون إلا مشوشة ومشوهة وسلطويّة. وإذا أفضى السلم إلى الأسفل كان المعنى انسجاماً. وينتج عنه دلالة مفادها أنّ الرؤية من أسفل أقرب إلى الواقع والحياة، أيّاً كانت درجة الاختلاق والابتكار فيها، وأنّها الأمل بالتغيير.
• يجد من يتتبع السلم في قصص محمد خضير، وما يفضي إليه، مراحلَ تطور رؤيته، فقد كان في مجموعته الأولى "المملكة السوداء" مرتاباً، لا يأمن الآخرين، ويرى أنّهم يبادلونه المراقبة والتربص، ثم صار في مجموعتيه "في درجة 45 مئوي" و"رؤيا خريف"، مُختبِراً للرؤيا مُفرِقاً بين نوعين منها، نوعٍ ينبع من الواقع، ويتصل به، مرغوب فيه، لأنّه يجعل القارئ يكتشف الواقع، ويعيد الشعور به، ويجدد صلته به، ونوعٍ ينبع من الميتافيزيقيّ والأيديولوجيّ، وهذا يؤدي إلى إحباط سعي الإنسان. وكان، في مجموعته "في درجة 45 مئوي"، أقرب إلى النوع الأوّل، وفي مجموعته "رؤيا خريف" أقرب إلى الثاني. وهو، في الحالتين، كان يقدّم براهين سرديّة، على صحة الموقفين واتزانهما الأخلاقيّ والعمليّ. وأخيراً كان في مجموعته الثالثة، "المجسر"، أقرب إلى الانسجام مع المجتمع، وميّالاً إلى تغليب وظيفة القصة الاجتماعيّة.
• انقسمت قصص محمد خضير، لمن يريد أن يفهمها عبر موضوع السلم، إلى قصص تناقش العلاقة بالأنا، وقصص تناقش العلاقة بالآخرين. وتغلب عنده قصص العلاقة بالآخرين على قصص العلاقة بالأنا. وهو يبدأ مجموعاته بمجموعة يغلب عليها الارتياب بالآخرين، وينهيها بمجموعة تطمئن إليهم، وبينهما تكون مجموعات الصراع مع الأنا؛ لترشيح نوع من الرؤية، ينبع من الواقع، ويمثله الأسفل، ونفي، والتحذير، من رؤيا مصدرها، أو موقعها، الأعلى. في تنفير ضمنيّ من الميتافيزيقيّ والأيديولوجيّ
 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي