مقالات ادبية واجتماعية وفنية
هيام عريعر / كاتبة وناقدة عراقية
الهاوية ذلك المكان الذي يكون الهبوط فيه قسريا وسحيقا ومخيفا في الآن نفسه ، إذ لا عودة منه على الأغلب ، سواء أكان حقيقية ذات طابع فيزياوي أم محض مصير تؤول حياتنا إليه بعد سيل من النكبات والأزمات . إلا وسام الموسوي فقد كانت الهاوية لعبته أو شريكته في اللهو ، متعة يقضي بها وطرا من عمره الذي ألفها واعتادها حتى بدت مكانا معيشا .
وليس لوسام الريادة في تلك العنونة ، فلطالما كانت الهاوية عنوانا لافتا لنصوص سردية و قصائد شعرية لها أثرها الفني الكبير ، فلقد طلب محمود درويش من حبيبته مرة أن تنتظره على حافتها :
يقول لها : انتظريني على حافة الهاوية
تقول : تعال .. تعال إنها الهاوية
بيد أن ما يخص وسام وحده أن الهاوية ليست قدرا مخيفا يتقيه ، أو محتوما لا فكاك منه ، إنها جزء من حياته الملغّمة بالألم والعناء ، وعلى المرء أن يحمل عبء تجربة الحياة بنفسه كما يقول دستويفسكي ، فما الهاوية في النهاية غير شوط من أشواط تلك الحياة التي يقطعها المرء بشق الأنفس .
هكذا تبدو الهاوية مفصلا رئيسا من مفاصل يوميات الشاعر السماوي الشاب ، يمر بمحاذاتها كل يوم ، حتى لم تعد تثير رهبته . فقد ألف قسوتها مثل غيره من أنبياء الشعر والفن ، حيث يعيشون تفاصيل العالم الدقيقة ، ثم يضطرون إلى الاغتراب عنها في فنهم ، حين يعيدون ترتيبها على وفق نسق اللغة الجمالي ، فتغدو الهاوية فسحة جمالية لافتة ، يستدرجنا للوقوف عليها شعرا في مجموعته التي يمهر إهداءه باسمها ، فهي القارئ المُهدى إليه ، الذي يحتفي به الموسوي ، حين يقدم لها عمله بعبارة مكثفة تحيل إلى كثير من المسكوت عنه ، مما تأتي المجموعة إلى تبيانه:
إلى الهاوية التي أحرص على إهانتها باللهو والضحك
ثم لا ندخل مجموعته حتى نتيقن من أن الجملة الفعلية التي وسمتها ، تقع بضمن الحركة الدائمة المستمرة ، فالمضارعة التي عليها الفعل (ألهو) تمد من عمره الآن وغدا ، في جدلية لصيقة بالواقع المعيش ، فتجعله دائبا . بيد أن اللافت في الأمر أنه يتحول عند وسام إلى نظام قصيدته وموضوعها الشعري ، فليس من شيء يعطي الدوال قوتها بقدر احتمالها التأويل وغياب المعنى . إنه يلهو مع اللغة لكي يبدد قتامة الواقع بالشعر ، محاولا التعاطي مع المفردات بأفضل ما متاح ، أملا في جعل الهاوية تغلق فوهتها . إنه يبحث عن الجوهري في الصورة الشعرية ، وعن ذاته الشاعرة فيها ، فهو لا يسعى لنقل المعنى إلى متلقيه قسرا ، ولا يأبه لوجود سنن مشتركة بينهما ، إنما يصنع من مخياله الخاص أنماطا شعرية تليق بنفسه وعالمه المأزوم ، مكثفا الدلالة بشكل لافت ، لا سيما وأن كثافة النص ذات طابع لاهوتي كما يرى الناقد الفرنسي رولاند بارت . إنه يقدم نمطا من اللهو الشعري المقدس –إن صح التعبير _ الذي ربما سيطيح بالهاوية المعيشة ، أو أنه سيردم الهوة بينه وبين جمهور لا يتنازل عن معايير جمالية تعسفية قارة ، حين يجره الموسوي إلى عرينه اللغوي ، فيمحق عنف المتخيل المعتاد ، بمتخيل قوامه أنا الشاعر المتنازع عليها بين يوتوبيا اللغة ودستوبيا الواقع :
متى يلبس ُ الفرح/ ثوب حروفنا/ كسماءٍ تلعن التفسير/ وتمقت كل نجمةٍ/ مازالت تنجب ضوء/
لا يكشف الطريق أمام أحلامنا؟؟/ متى نتخلص منّا ومن اللعنة التي تكتبنا/ فارغةً ِّ من الشعر؟
ولأنه يؤثث قصيدته بالاختلاف فإنه يجعل من الأنثى لغته الأولى ، حيث يبدأ وجوده الشعري ، ففي البدء كانت الكلمة والكلمة أنثى ، فهي البدء وهي مفتاح القصيدة عنده ، حيث تمنّيه بسبل الخلاص ، لكن الممارسة العشقية معها لا تزيد هاويته غير اتساع ، فالحب محنة وجود أخرى ، تنكأ قرحة المعنى لديه وتضيف لهمومه هما آخر ، قال :
ها انت تمنحين الهاوية فماً آخر/ وتتمتمين في أذن الخديعة/ ما تيسر من الفراغ/ الفراغ الذي توهج كثيرا
حين سقطنا في الحب بعيدا عن البوصلة
إنه لا يتغزل بالمرأة ولا يجعلها موضوعا شعريا ، إنما يعيد الاعتبار لوجودها الفاعل بضمن الحياة الساخرة التي يعيشها ، أو أنه يبحث عن نفسه فيها وسط لهوه الدائم ، مانحا إياها هوية كونية ، قاصدا محو الاختلاف والخلاف ، فكلاهما خاضعان لمجتمع صانع لفجوات جندرية ومعرفية مرعبة ، وكلاهما راغبان في تأثيث الحلم بالمغايرة ، قال :
وحدك تلونين الأشياء/ ترسمين فوقها قلباً كبير/ وجسدا خاوياً/ هذا ليس إنصافاً ٍ لقلب/ طالما لوح لك
بيد من حياة !
وحدك هناك/ تتعكزين على هذيانك/ هذيانك الذي/ يترك أحلامك/ في كمين السراب
كل هذا يحدث في تلك البقعة الأثيرة لديه ، البلاد التي سقط في فخاخ عشقها ، فلا غادرها ولا تمكن من أن يحيا فيها بسلام ، إنه يأن منها ولها ، فهي تبحث عن ملامحها بعد أن عاث فيها الجاحدون نهبا وترويعا ، فجزء كبير من تشظيه يعود لتلك البقعة الوطن ، قال :
أنا أرسمك كمحاولة لحلم بعيد/ أو أن أرفض الندم/ الذي تبتكرينه دائما/ وأقبل بحياة غير قادرة
على تحمل نفسها/ لست يائسا/ لكنه الأمل/ الذي يرسمني هكذا وحيدا/ أنا هكذا أعيش لأجلك
نعم لأجلك فقط/ أيتها البلاد الوحيدة
لقد عاش الموسوي محنة تلك البلاد ، فهو من فئة شعرية ولدت في فم الحروب ، ونشأت في كنف العوز الاقتصادي والمهاترات السياسية والنزاعات الطائفية ، فلم ير الحياة بغير الحرب التي ربما انتزعت منه أشياء قريبة جدا وأخرى مأمولة . لذا كانت الحرب مفردة صاخبة في قصيدته ، تستفز المتلقي بين الفينة والأخرى ، فكأنها الذاكرة التي تنفتح ليتداعى الماضي عبر الدوال الصارخة بالوجع ، فتعيدنا إلى هاوية البلاد التي أحبها وسقط في فخ الانتماء لها ، قال :
الحرب لا تموت/ إنها تنظف/ أسنانها من الضحايا فقط/ الموت أمنيةُ القبر/ وهشاشة المجاز في الحياة
يقولها أبي مراراً/ ويترك التأويل لي/ أنا الذي قضيت العمر/ أرمم عشاً لعصفورين هرمين.
هكذا تبدو البلاد هاوية أخرى ، حين تكون المعنى المؤجل الذي نرغب في حضوره العاجل ، إنها هاوية لأقدارنا ونحن نجهد لانتشالها من كل هذا الخراب ، وحيث أن الموسوي يلوك أيامه وجعا فإنه لا يجد ما يردم به ذلك الانحدار غير شعره ، لذا فهو يلعب بدوال المعنى حين يؤثث صورته الشعرية بكثير من الصمت والغياب ، حتى يبدو شعره رحلة حلمية ضاجّة بالصمت المزعج والألوان الباهتة ، والمساحات الفارغة . أنه يدخلنا معه في فنتازيا رؤيوية يستعير مفاتنها من المدرسة السوريالية ، فتشتبك الصور ويفسح المجال للاوعيه أن يقدم ما يشاء من ردود أفعال غير خاضعة للرقابة في قصيدته ، قال :
أنام من أجل أن أحلم/ وأحلم من أجل أن اضيع/ هكذا أنا مثل فلاح عجوز/َ أسقي الأحلام بدموع التعب/
وكثيرا ما أنسى/ نبتةَ الأمل يابسةً في قلبي.
بهذه الطريقة بات الحلم جزء أصيلا من قصيدته ، وبدت القصيدة حلما بديلا ، حين حمّلها الشاعر تداعيات ذهنه وحرية (الهو) وتوقعات المستقبل ، حتى كأن الحلم يحلّ فيها ، فحين ننقل الحلم من الصورة الذهنية إلى الواقع اللغوي ، فإننا نجعل من نص الحلم قصيدة ما ، ذلك بأن هذا النص يحتفظ لنفسه بمعنى أولي يتجدد ويتغير مع كل قراءة ، من خلال هدم المعنى القديم وبناء المعنى الجديد.
لقد كانت هاوية الموسوي وتدا مفصليا في ديوانه ، تدور حوله كل ثيمات المجموعة ، إذ ليست هي مجازا بديلا لحقيقة قاهرة ، إنما هي الحقيقة نفسها تتجسد في روتينه اليومي المعيش وقيمه الكبرى ومشاعره النابضة بالحب ومقاومته التي يسلحها بالأمل وبروح وطنية تكشف عنها ذاكرة طويلة الأمد .
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي