loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

أفق العنونة في مجموعة ألهو مع الهاوية لوسام الموسوي

breakLine
2022-06-30

هيام عريعر / كاتبة وناقدة عراقية

 

الهاوية ذلك المكان الذي يكون الهبوط فيه قسريا وسحيقا ومخيفا في الآن نفسه ، إذ لا عودة منه على الأغلب ، سواء أكان حقيقية ذات طابع فيزياوي أم محض مصير تؤول حياتنا إليه بعد سيل من النكبات والأزمات . إلا وسام الموسوي فقد كانت الهاوية لعبته أو شريكته في اللهو ، متعة يقضي بها وطرا من عمره الذي ألفها واعتادها حتى بدت مكانا معيشا .
  وليس لوسام الريادة في تلك العنونة ، فلطالما كانت الهاوية عنوانا لافتا لنصوص سردية و قصائد شعرية لها أثرها الفني الكبير ، فلقد طلب محمود درويش من حبيبته مرة أن تنتظره على حافتها :
يقول لها : انتظريني على حافة الهاوية
تقول : تعال .. تعال  إنها الهاوية
 بيد أن ما يخص وسام وحده أن الهاوية ليست قدرا مخيفا يتقيه ، أو محتوما لا فكاك منه ، إنها جزء من حياته الملغّمة بالألم والعناء ، وعلى المرء أن يحمل عبء تجربة الحياة بنفسه كما يقول دستويفسكي ، فما الهاوية في النهاية غير شوط من أشواط تلك الحياة التي يقطعها المرء بشق الأنفس .
  هكذا تبدو الهاوية مفصلا رئيسا من مفاصل يوميات الشاعر السماوي الشاب ، يمر بمحاذاتها كل يوم ، حتى لم تعد تثير رهبته . فقد ألف قسوتها مثل غيره من أنبياء الشعر والفن ، حيث يعيشون تفاصيل العالم الدقيقة ، ثم يضطرون إلى الاغتراب عنها في فنهم ، حين يعيدون ترتيبها على وفق نسق اللغة الجمالي ، فتغدو الهاوية فسحة جمالية لافتة ، يستدرجنا للوقوف عليها شعرا في مجموعته التي يمهر إهداءه باسمها ، فهي القارئ المُهدى إليه ، الذي يحتفي به الموسوي ، حين يقدم لها عمله بعبارة مكثفة تحيل إلى كثير من المسكوت عنه ، مما تأتي المجموعة إلى تبيانه:
إلى الهاوية التي أحرص على إهانتها باللهو والضحك
   ثم لا ندخل مجموعته حتى نتيقن من أن الجملة الفعلية التي وسمتها ، تقع بضمن الحركة الدائمة المستمرة ، فالمضارعة التي عليها الفعل (ألهو) تمد من عمره الآن وغدا ، في جدلية لصيقة بالواقع المعيش ، فتجعله دائبا . بيد أن اللافت في الأمر أنه يتحول عند وسام إلى نظام قصيدته وموضوعها الشعري ، فليس من شيء يعطي الدوال قوتها بقدر احتمالها التأويل وغياب المعنى . إنه يلهو مع اللغة لكي يبدد قتامة الواقع بالشعر ، محاولا التعاطي مع المفردات بأفضل ما متاح ، أملا في جعل الهاوية تغلق فوهتها . إنه يبحث عن الجوهري في الصورة الشعرية ، وعن ذاته الشاعرة فيها ، فهو لا يسعى لنقل المعنى إلى متلقيه قسرا ، ولا يأبه لوجود سنن مشتركة بينهما ، إنما يصنع من مخياله الخاص أنماطا شعرية تليق بنفسه وعالمه المأزوم ، مكثفا الدلالة بشكل لافت ، لا سيما وأن كثافة النص ذات طابع لاهوتي كما يرى الناقد الفرنسي رولاند بارت . إنه يقدم نمطا من اللهو الشعري المقدس –إن صح التعبير _ الذي ربما سيطيح بالهاوية المعيشة ، أو أنه سيردم الهوة بينه وبين جمهور لا يتنازل عن معايير جمالية تعسفية قارة ، حين يجره الموسوي إلى عرينه اللغوي ، فيمحق عنف المتخيل المعتاد ، بمتخيل قوامه أنا الشاعر المتنازع عليها بين يوتوبيا اللغة ودستوبيا الواقع :
متى يلبس ُ الفرح/ ثوب حروفنا/  كسماءٍ تلعن التفسير/ وتمقت كل نجمةٍ/  مازالت تنجب ضوء/
لا يكشف الطريق أمام أحلامنا؟؟/ متى نتخلص منّا ومن اللعنة التي تكتبنا/  فارغةً ِّ من الشعر؟ 
  ولأنه يؤثث قصيدته بالاختلاف فإنه يجعل من الأنثى لغته الأولى ، حيث يبدأ وجوده الشعري ، ففي البدء كانت الكلمة والكلمة أنثى ، فهي البدء وهي مفتاح القصيدة عنده ، حيث تمنّيه بسبل الخلاص ، لكن الممارسة العشقية معها لا تزيد هاويته غير اتساع ، فالحب محنة وجود أخرى ، تنكأ قرحة المعنى لديه وتضيف لهمومه هما آخر ،  قال :
ها انت تمنحين الهاوية فماً آخر/ وتتمتمين في أذن الخديعة/ ما تيسر من الفراغ/ الفراغ الذي توهج كثيرا
حين سقطنا في الحب بعيدا عن البوصلة
  إنه لا يتغزل بالمرأة ولا يجعلها موضوعا شعريا ، إنما يعيد الاعتبار لوجودها الفاعل بضمن الحياة الساخرة التي يعيشها ، أو أنه يبحث عن نفسه فيها وسط لهوه الدائم ، مانحا إياها هوية كونية ، قاصدا محو الاختلاف والخلاف ، فكلاهما خاضعان لمجتمع صانع لفجوات جندرية ومعرفية مرعبة ، وكلاهما راغبان في تأثيث الحلم بالمغايرة ، قال :  
وحدك تلونين الأشياء/ ترسمين فوقها قلباً كبير/ وجسدا خاوياً/ هذا ليس إنصافاً ٍ لقلب/ طالما لوح لك
بيد من حياة   !
وحدك هناك/ تتعكزين على هذيانك/ هذيانك الذي/  يترك أحلامك/  في كمين السراب
  كل هذا يحدث في تلك البقعة الأثيرة لديه ، البلاد التي سقط في فخاخ عشقها ، فلا غادرها ولا تمكن من أن يحيا فيها بسلام ، إنه يأن منها ولها ، فهي تبحث عن ملامحها بعد أن عاث فيها الجاحدون نهبا وترويعا ، فجزء كبير من تشظيه يعود لتلك البقعة الوطن ، قال :
أنا أرسمك كمحاولة لحلم بعيد/ أو أن أرفض الندم/ الذي تبتكرينه دائما/ وأقبل بحياة غير قادرة
على تحمل نفسها/ لست يائسا/ لكنه الأمل/ الذي يرسمني هكذا وحيدا/ أنا هكذا أعيش لأجلك
نعم لأجلك فقط/ أيتها البلاد الوحيدة
  لقد عاش الموسوي محنة تلك البلاد ، فهو من فئة شعرية ولدت في فم الحروب ، ونشأت في كنف العوز الاقتصادي والمهاترات السياسية والنزاعات الطائفية ، فلم ير الحياة بغير الحرب التي ربما انتزعت منه أشياء قريبة جدا وأخرى مأمولة . لذا كانت الحرب مفردة صاخبة في قصيدته ، تستفز المتلقي بين الفينة والأخرى ، فكأنها الذاكرة التي تنفتح ليتداعى الماضي عبر الدوال الصارخة بالوجع ،  فتعيدنا إلى هاوية البلاد التي أحبها وسقط في فخ الانتماء لها ، قال :
الحرب لا تموت/  إنها تنظف/ أسنانها من الضحايا فقط/ الموت أمنيةُ القبر/  وهشاشة المجاز في الحياة
يقولها أبي مراراً/  ويترك التأويل لي/ أنا الذي قضيت العمر/ أرمم عشاً لعصفورين هرمين.
  هكذا تبدو البلاد هاوية أخرى ، حين تكون المعنى المؤجل الذي نرغب في حضوره العاجل ، إنها هاوية لأقدارنا ونحن نجهد لانتشالها من كل هذا الخراب ، وحيث أن الموسوي يلوك أيامه وجعا فإنه لا يجد ما يردم به ذلك الانحدار غير شعره ، لذا فهو يلعب بدوال المعنى حين يؤثث صورته الشعرية بكثير من الصمت والغياب ، حتى يبدو شعره رحلة حلمية ضاجّة بالصمت المزعج والألوان الباهتة ، والمساحات الفارغة  . أنه يدخلنا معه في فنتازيا رؤيوية يستعير مفاتنها من المدرسة السوريالية ، فتشتبك الصور ويفسح المجال للاوعيه أن يقدم ما يشاء من ردود أفعال غير خاضعة للرقابة في قصيدته ، قال :
أنام من أجل أن أحلم/ وأحلم من أجل أن اضيع/ هكذا أنا مثل فلاح عجوز/َ أسقي الأحلام بدموع التعب/
وكثيرا ما أنسى/ نبتةَ الأمل يابسةً في قلبي.
  بهذه الطريقة بات الحلم جزء أصيلا من قصيدته ، وبدت القصيدة حلما بديلا ، حين حمّلها الشاعر تداعيات ذهنه وحرية (الهو) وتوقعات المستقبل ، حتى كأن الحلم يحلّ فيها ، فحين ننقل الحلم من الصورة الذهنية إلى الواقع اللغوي ، فإننا نجعل من نص الحلم قصيدة ما ، ذلك بأن هذا النص يحتفظ لنفسه بمعنى أولي يتجدد ويتغير مع كل قراءة ،  من خلال هدم المعنى القديم وبناء المعنى الجديد.
  لقد كانت هاوية الموسوي وتدا مفصليا في ديوانه ، تدور حوله كل ثيمات المجموعة ، إذ ليست هي مجازا بديلا لحقيقة قاهرة ، إنما هي الحقيقة نفسها تتجسد في روتينه اليومي المعيش وقيمه الكبرى ومشاعره النابضة بالحب ومقاومته التي يسلحها بالأمل وبروح وطنية تكشف عنها ذاكرة طويلة الأمد .

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي