أدبية القص في مجموعة "ما فتئ الصبح في أوله" للقاص القاص جليل كريم

طالب عمران المعموري | كاتب عراقي

ظل النص الادبي محاطا بالسياقات التي انتجته ، أو ساهمت في بلورته لدى المتلقي ، واختلفت كثيرا في دواعي استحسان نص أدبي دون آخر، بين من ينظر الى الادب كمبنى وشكل ومن ينظر اليه من حيث كونه موضوعا ، ومضمونا..  
بين يدي مجموعة قصصية (ما فتئ الصبح  في أوله) للقاص جليل كريم  اقف عندها في مقاربة لنصوصها سياقيا من حيث العوامل الخارجية ونسقيا من حيث مكوناتها وخصائصها الفنية 
اختار القاص عنونة مجموعته بقصدية من أحد قصصه في المجموعة والذي عد جزء من بنائها الفني ، ومضمونها وهو يعد عنوان اخباري جذاب بصيغة بنية نصية زمانية لارتباط المكون الزمني بجسد النص، فهي تعد البؤرة والثقل في جسد النص  وبلغة شعرية  مثيرة للاهتمام.
لا يخلوا العنوان من ابهام  بحيث لا يمكن أن يستشف منه معنى موحٍ ذو دلالة مما يدفع القارئ للولوج الى المجموعة لملأ الفراغات، وجلاء غموضه ،كما ان العنوان أداة أثارة من أجل أسر المتلقي ودفعه للإقبال على قراءة النص والامساك بتلابيبه  استهل المجموعة بمقدمة وتوطئة  " مجموعتي القصصية هذه لا تنتمي في شكلها ولا في اسلوبها ولا حتى في مضامينها واحداثها  الى اتجاه واحد وانما هي متنوعة ... "ص7 
كما ان القصة التي اختارها لتكون عنوان المجموعة تشترك مع كثير من القصص الاخرى من واقع المكان والزمان والاحداث 
الزمن والذاكرة 
انطلاقا من مفهوم الزمن وأهميته في العمل الادبي الى مستوياته وتقنياته حيث اعتمد القاص تقنية الاسترجاع/ الزمن والذاكرة ، تعتمد هذه التقنية على ذاكرة الشخصية القصصية (فلاش باك ) ليتم من خلالها استدعاء احداث الماضي وجعلها تنشط في نطاق الزمن الحاضر وأحداثه ؛ أي ان الشخصية القصصية تسترجع عبر التذكر أحداثا متداخلة ، والتي اتسمت معظم قصصه وذلك عن طريق السرد الاسترجاعي وهو ما يكشف بالفعل انه قد حجزت للذاكرة فضاءات رحبة وضمنتها بأزمنتها القريبة والبعيدة عناصر القص الاخرى من شخصيات وأحداث وأمكنة ومعجم لغوي مكتظ بالألفاظ  كما يمكن القول انه استعادت أحداثا متنوعة الامكنة متنوعة الموضوعات ، كالطفولة ، الحب، الحرب ، الهجرة ، الفقد ، استدعاء الذاكرة ومحاولة استرجاع صورها المحزنة ..
كما نراه جليا في قصة (طائر الدراج ) حيث يستذكر السارد صورة من الماضي( الحرب ) :" تماهت اصواتهم مع رشقات أسلحة خفيفة ومتوسطة... أجساد تتمزق هنا وهناك تحت سعير اشتباكات محتدمة بالسلاح الابيض "ص14 
كان للزمن حضور في نهايات القصص بصور وتجليات مختلفة ففي نهاية قصته (ما فتئ الصبح في اوله ) كما في  الفاتحة النصية المتجلية بالعنوان  : سأنتظرك وسأستمع بإصغاء وسرور الى كل ما يعتمل في قلبك من مشاعر ورؤى لها مسيس بتشييد غد  أحلى ." ص125 
ويتجلى ذلك ايضا في استهلال قصته وفي الفاتحة النصية  (النهر الحالم )  وهو يقول بلسان الضمير الغائب ( ما فتئ ينساب ببطيء كخطى عجوز يحيا في أرذل العمر . انه يدخر صورا عابقة بملاعب الصبا عند ضفاف مترعة بمرح ناصع" ص108 
نلمس حضور الزمن في نهاية القصة ايضا .:" ظلت عينا النهر العجوز تترقبان أخر وميض وسنان يطفو على سطحه تارة  ويرسب أخرى "  ص109 
وليس الزمن هنا ذا وظيفة ظرفية لأحداث القصة بل له وظيفة غرائبية تشويقية من خلال توقعات ما سيحدث .

اشكالية المكان  
للمكان اهمية بالغة في النص القصصي ، فهو بمثابة العمود الفقري في جسد النص من حيث هو الارضية التي تدور فيها الاحداث وتتوزع عليها الشخصيات ، حيث يجتل حيزا مهما في بنية القصة القصيرة ويشكل مع عناصر السرد الاخرى كلا متجانسا يعكس أدبية هذا الجنس ومستقبلا الاجناس الادبية الاخرى ،  ساهم في ترتيب الفعل السردي، بشخصياته وأحداثه وأزمنته ، فله مدلولاته الفكرية والنفسية والاجتماعية أيضا يتجلى ذلك في قصصه المتنوعة  (أيام عبقة، رحلة عبرة أزمنة الكراد، هوتيل جاويد،...) فالمكان بالنسبة للقاص أشياء متعددة ، فهو المأوى والانتماء ومسرح الاحداث. فالمكان الحدث ؛ المكان الوقائع ، المكان الذي يختزل فترات من عمر ، وأجزاء من حيوات " كنّا صغاراً في أزقة الكراد، نقتني نحاسا ، ولا نبيعه لأبي العتيق ، لأنه غالباً ما كان  يشتريه منّا بثمن بخس لا يساوي معاناة بحثنا المضنى عنه تحت أشعة تموز الحارقة"ص24 يعبر لنا على لسان السارد ما يختزنه من ارتباطات عاطفية وجدانية بين الشخصية والمكان ينطلق في استذكار ماضيه لما يشكله المكان من وعاء ومخزون ، تنطبع المكنة بطابع الاجتماعية لما تؤديه من تواصل وتفاعل اجتماعيين بين الافراد  
القاص جليل كريم واعيا بسلطة المكان وأدائه القوي داخل النص وعلاقته مع المكان كمكون رئس دال ، ومكون بمحمولات  مختلفة، الثقافية والتاريخية  ، والاجتماعية ، والدينية ، من شأنها أن تنعكس على عناصر العمل الادبي الأخرى فتتضافر معها لتشكل قوة/ سلطة النص الكلية 
وبهذه العلاقة الثنائية بين الناص ونصه وحسب الطريقة التي يستطيع الكاتب بواسطتها أن يهيمن على عالمه الحكائي والعلاقة الوطيدة بين الزمن والمكان بوصفهما  المكونين الاطارين لمجريات الاحداث القصصية يؤثر احدهما في الاخر .فيفرض كل مكان سلوكا خاصا على ساكنيه وينطبعون بخصوصياته .

اللغة والاسلوب
تعد اللغة اساس النص والمحور الرئيس للعمل الادبي لما تتضمنه من قدرات هائلة على الاثارة والدهشة لما تكتنزه من احتياطي دلالي وجمالي كبير، حيث تعد اللغة الجسر الذي يربط المبدع بالمتلقي  .. استطاع القاص ان يمتلك زمام اللغة ومن خلالها استطاع ان يوظفها كأداة ايحاء وعنصر تشكيل جمالي  اتسمت باللغة الشعرية بوصفه ابداعا وتخييلا وانزياحا حيث لمسنا ذلك من العنونة الرئيسة (ما فتئ الصبح في اوله ) تظهر مقدرة القاص في نقل اللفظة من جمودها الدلالي المعجمي الى حراكها التعبيري النصي / السياقي ، اللغة التي اشتغل عليها القاص اللغة الفصحى الممتلئة بالصور والاشارات التي اتسمت بخصائصها الادبية من دقة الوصف ووضوح الرؤية ووهج الخيال  ولم يعتمد اللغة العامية  .. 
" واذ رسمت  أمارات التياع في عينيها وضّحت له أن لا تبتأس  فروحك ما فتئت طليقة كتلك الورود الحمر المنعكسة صورها على شفيف ماء البحيرة " ص22

وقد يلمس القارئ ان هناك اسلوب التكرار اللفظي (التكرار الاسلوبي ) لبعض المفردات وخاصة مفردات الفعل الماضي الناقص (ما فتئ ، ما انفك ) ، تصير بؤرة يحاول فيها القارئ ان يقف لمعرفة مقصديه الكاتب من تكرارها او ما تحمله من بعد ايقاعي يخزن جزءاً من جمالية النص وأدبيته ، وينزاح بلغة النص التي تتحول من موضعها المعجمي الى ادبيتها  تعد هذه الحالة هو تعبير عن حالة نفسية وشعورية يضطر اليها القاص للتكرار وهذا شكل من اشكال الانزياح 
" بان ضوؤها متقطعاً ، متناثراً ، وملتمعاً على عُليق اللبلاب المتسلق والمعترش بأزاهير صفر على اسيجة وبلكونات منزل نضار الباسق ، انسل بدني ، من باب منزلنا الذي غاص ثلثه السفلي في باطن بلاط الفناء" ص51 
تمكن القاص من تكثيف لغته داخل قصصه من حيث شحن الكلمات وبهذا التكثيف يتيح القاص للمتلقي فرصة ابتكار الدلالات والتوقعات وتأويلات النص  وهو ما يحسب للنص القصصي المعاصر المكثف والمنفتح على تعدد القراءات لانفتاحه على استعمالات خاصة متميزة للغة .